يقولون إن أعظم دور للمفكّر الصادق مع ذاته ومجتمعه هو أن يؤسس لما "ينبغي أن يكون" دون مجازفة أو خداع، أو يعتزل التصدّر ويلتحف الصمت موقفا. كما تعلّمنا أيضا أن من جماليّات الدور الحضاري للمفكّر بناءُ قناعته وقدرته على أن يتسامى على "حب الذات" وجاذبيّة الهتافات العاطفية مستحضرا التاريخ والمستقبل ليرسم تفاصيل طريق النجاة في وعي كامل بتعقيدات حاضره. ولكن يبدو أننا ونحن نعيش في لجّة ظرف تاريخي لم يعد ممكنا معه تبيّن نزاهة الأدوار، وموضوعيّة المواقف في ظل شيوع مظاهر التكسّب من جهة والخوف على "المكانات" الهشة التي صنعتها ظروف لا تصمد بالضرورة أمام متغيرات وأحوال الإنسان العربي. هذه الأحوال الفريدة في شخصية الإنسان العربي التي لم يقدّرها بعض من أغرتهم شهوة اعتلاء "المنصات" الإلكترونية والفضائية حق قدرها. إنّ الإنسان العربي كما تكشف تفاصيل التاريخ منذ "ألا لا يجهلن أحد علينا" ينطوي على تكوين نفسي عماده الاعتداد بالذات والعصبة والفخر بالسيف الذي استبدله مسرحا ومنهجا بأدوات العصر الرقمي. العربي إنسان فريد في شخصيته وتكييف "مزاجه" الذي قد يغيّر مسار حياته ومواقفه جراء سماع بيت شعر جماله الوحيد في حسن سبك الوزن والقافية. والمؤلم هنا أن لا بديل لخيانة المفكر سوى الانهيار خاصة مع بروز بعض نتائج صناعة النخب الرديئة، وسرعة ظهور مقدمات ضياع الهوية الفكرية للأجيال. ومما أسهم في تسريع ذلك تجلّي الضعف المعرفي المؤسسي في بنية المجتمع، ورواج ثقافة القطيعة مع التاريخ، وحالة الخصام مع الحاضر التي تتبنى استغلال واقعه البائس رموز شعبية انتهازية، أو هي في أحسن أحوالها لا تحسن قيادة الجموع في منعطفات التاريخ. ووسط كل هذا الشتات بات المشهد المجتمعي في حالة من فوضى الاتجاهات والتناقضات خاصة أمام جموع الشباب الذين لُقّنوا لغة واحدة عمادها الاحتجاج حتى أضحى الاعتراض وحده منهج عمل وأسلوب تعامل. وفي السياق ذاته أنتجت هذه الحالة العجيبة مما يشبه الانتحار الحضاري قدرا مخيفا من التهوّر الأخلاقي الذي استهدف كل حمى الممنوع الرسمي والمحترم المجتمعي والحرام الشرعي. وحتى يمكن تشخيص جوانب هذا المشهد لا يمكننا إغفال (أثر) انحسار دور الفكر المؤمن برسالته، (وتأثير) تصدّر النخب الصناعية الجديدة للمشهد عبر الإعلام الإلكتروني. وحتى تتّضح الصورة.. علينا فقط تأمل نتيجة جمع الكلمات المتقاطعة لتحالف النخب الجديدة مع أسماء اجتماعية "براغماتية" تميزت بالمهارة في صناعة الشعارات واستثمار الضجيج الناجم عن كسل البيروقراطيين وتعطّل الحقوق على مكاتب الروتين. هذه الصورة الجزئية لا تعكس كامل المشهد ولكن ما بات واضحا بجلاء هو تغير المواقع التقليدية لأطراف المشهد الخطابي على المسارح الإلكترونية تحديدا. هنا عصر جديد "تنازل" فيه الخطيب (الإلكتروني الجماهيري) عن دور "الرمز" الموجّه مكتفيا بالإنصات لهتافات الساخطين ملخصا كل "ما يطلبه المغردون" ليتربع على عرش الضجيج. * مسارات: قال ومضى: المأساة أنك تتوسّط حلبة الرقص فإما أن تكون "الطبل" أو "الطبال".