«نهربُ من المتن إلى الهامش، ومن الشظفِ إلى الترفِ، ومن حراك الشارع إلى بحورِ الشعر وجدليات التشريع فلا نحكمُ بجاذبية الأرض بل نحلم بأقمار السماء؛ ومن يُصخْ سمعًا لنا فسيظننا نعيش في جزيرة هانئة في المحيط الهادئ يمر بها خطُّ التاريخ الدولي فيتوقف الزمان ويتبدل المكان. «توقفنا ثلث قرن نعزفُ لحنًا مرددًا حول سياقة المرأة بصوت وصمت، وتأييد وتنديد، ومراجعة وتراجع رغم علمنا أن شأنها قرار يلد ويئد ثمَّ يؤرشف في سجلات الذاكرة الجمعية ترويه يومًا لجيل لن يصدق حجم الفراغ الثقافي الذي نعيشه، مثلما لم يتخيل جيلنا أن جدلًا عاتيًا قد مضى فأمضَّ بني أبينا مؤتلفَهم ومختلفَهم بشأن الراديو والدراجة وتعليم الفتاة ودخول التلفزيون، مثلما شهدنا جدلَ الفضائيات والإنترنت، وما نزال نشهدُ سواها. «هل يمكن أن تكون هذه قضايا محورية في عالٍم مشتعل يلتفت بعضُه لتقنيته ويفنى بعضُه من أجلِ قُوْته، وتحيط بنا جحافل فارس والروم، ويحتاج بناء تكوينات المجتمع المدني وتجذير فلسفة الحرية والمسؤولية وتقليص الأبويات المشرعنة ومواجهة تحديات التنمية طاقات لا تستنزفها حزبية «الرجاليين والنسويين». «ربما عُدَّ هذا من مُعار الكلام ومعاده، وهذا حق، لكنَّ المشكلةَ لا تقفُ عند بوابةِ الاستنساخ الممل لما قاله القَبْل ولما يلوكهُ البعْد بل تتخطى ذلكَ إلى غدٍ «تستثيره مثلما تثريه نخبٌ ثقافية لا تستسلمُ للراهن المُدجّن بعاديّات الأمور متجاهلةً عاديَات وعاتيَات الدهور. «كذا قدرُ طُّلَعَةِ الأمم «لدينا كما لدى سوانا» وفي تأريخهِ عن (فولتير 1694-1778م) الذي وصِفَ بأنه خلاصةُ قرنٍ من الزمان، والملك الحقيقي للقرن الثامن عشر كتبَ (ويل ديورانت في قصة الحضارة -جزء 35 ص 11) أنَّ هذا «اللهب المتوهج» قد كره «كثرة الأشياء عديمة الجدوى التي أرادَ الوسطُ المجتمعي أن يشحنَ بها ذهنه، وأعلنَ شعارهُ: التركيز على صميم الموضوعات». «قد يفسرُ هذا الإحباطَ من اصطراع الجميع رموزًا وعامًة في متاهاتِ إعادة إنتاج الذات، وخفوت مفكري التغيير والتنوير الذينَ يسبقون الجموع ويرفضون السيرَ وراءها أو الانجذابَ إلى ساحاتِها، ومعارك الوجودِ تحتاجُ إلى موجدين، وفي المواقفِ الفاصلة يبدو دورُ قادة الفكر الذينَ يعيشونَ لمجد ناسهم ولا يَعيشونَ بانكساراتهم. «وفي الضفةِ الأخرى لا معنى لقياس آليات التطور بتلاؤمها مع توجهاتِ فريق أو ضدَّ سواه، وتوازنُ المجتمعات يتطلبُ وجودَ الفريقين المتناقضين فلا يعابُ على متطرفيّ الجانبين تشددهم؛ فهذه خصيصٌة في البناءِ المجتمعيّ إذا لم يستعدِ أحدهم بما لهُ من حظوٍة وحضور. «وسيبقى الاستفهامُ الملح المتصلُ بكيفيةِ صُنع المفكرين في جيلٍ ناشئٍ لم يحيَ التحديات وتتجاذبُهُ قوانين الحركة والسكون، وعهدنا في بعض المجتمعات الحيّة وظائفَ قياديةً يقتصرُ دورها على تخليق الأفكار الجديدة واختبارِها والتوصيةِ بما يجتازُ منها، وتوفر لهم أجواءٌ عامرةٌ بوسائط الاسترخاء والاستقراء، ولا يعنيهم ضجيج الجدل إلا بما يَخدِمُ مشروعاتِهم . «حكى صديق عن معاينةٍ وعاها في اليابان حينَ زارَ أحد المصانع الضخمة ورأى نفرًا في حديقٍة مغلقة يلهونَ «بالمراجيح» وعرفَ أنَّ وظيفتهم التفكيرُ فقط، وهنا يقفُ الكلام؛ فهل لدينا مفكرونَ أم مُكررون، وعلى طريقة (مارون عبود 1886-1962م): أعندنا مجددونَ أم مجترون. «ستبقى للحياةِ نماذجُ تضيءُ إعتامًا وتنطلقُ نحو مساراتٍ جديدة دون أن تعبأَ بالنبضِ الواهن؛ حيثُ لا تنمو العقولُ ولا تهنأ الأجساد. «العقل اشتعال».