د. حسن بن فهد الهويمل - الجزيرة السعودية ولدْتُّ سلفياً بالتقليد على سنن:- [إنا وجدنا آباءنا]، وفتحت عيني، وتفتق ذهني على [الطحاوية] و[كتاب التوحيد] وامتدت يدي إلى [رياض الصالحين] و[تفسير ابن كثير] و[الروض المربع]. وراعتني فيما بعد نظرية التأويل والأرجاء والتفويض والتشبيه والتعطيل والتكييف والتوقف، وامتعضت من تشتت الأمة بين جهمية وقدرية ومرجئة ومعطلة ومعتزلة. واستعصت عليَّ دقائق المسائل حول القرآن: أمخلوق هو، أم هو كلام الله، وماذا عن الأحبار والأوراق واللفظ، وما لا يمكن الخلاص من دخنه. وعجبت من موجة الزندقة، وخطورة تسْيِيْسِها، وتلاحق الفتن، وامتحان العلماء، والتضييق على المخالف، وأيقنت بافتراق الأمة، وعودتها إلى ما حذر منه رسول الرحمة:-[لا تعودوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض]، وخشيت على الكافة من تحذيره عليه السلام:-[سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر]، وحديث [إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك]، وإن قصد به الذين مردوا على النفاق، ممن لا يعلمهم الرسول، وممن ارتد مع [مسيلمة]. وأسأل الله أن يتوفاني سلفياً، متبعاً لا مبتدعاً، لم أخُطّ فُحشاً بيميني، ولم ألفظ سوءاً بلساني، ولم أصب دماً حراما بيدي. وأسأله أن أتمكن من صناعة سلفيتي على عيني، بما يرضي الله عني، بعد تقليب المذاهب، وفلي الملل، وتفكيك النِّحل، وأن أكون قادراً على القول لكل عالم أو متعالم يملي علي ما توصل إليه، أو يُفَصَّل لي لباس التقوى على عينه:- [فامْنع نوالك عن أخيك مُكرَّماً.. فالليث ليس يسيغ إلا ما افترس] لتتشكل سلفيتي التي لا تخذلني:-{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}. لقد تفسحت للعقلانيين، والظاهريين، وسائر الفلاسفة، والمفكرين. فما وجدت الاطمئنان إلا بالسلفية، على أني لن أنازع عالماً بجهل، ولا متبعاً بهوى، فيما أكون مديناً لكل من أرشدني إلى صواب، أو أخذ على يدي دون أي ضلال، فأنا بشر حي، والحي لا تؤمن عليه الفتنة، إذ ما أكثر الذين اتخذوا أهواءهم آلهة، فأضلتهم عن سواء السبيل. وليس لي في الاتباع المطلق، وبين يدي من كتب التفسير، والفقه، والحديث، والأصول، والعقائد ما يغني ويقني. غير أن الرجوع إلى العلماء المتخصصين، والاستئناس بما توصلوا إليه، وعرض ما أجنح إليه على ما أنجزوا من أحكام، يعد مِنْ إبراء الذمة، وأخذ الحيطة. وسؤال أهل الذكر مطلب إسلامي، فهم كالمختبرات، يكتشف السائل من خلال أقوالهم مدى صحة ما أخذ به. وما من قضية تَوصَّلتُ فيها إلى رؤية، إلا واستنْجدتُ بالفقهاء، والمحدِّثِين، وعلماء الكلام، والأصول. لأرى مدى صحة ما ذهبت إليه، فالإنسان وإن كان يحلو له الاستغناء والاستبداد، أحوج ما يكون إلى مرايا الآخرين المسطحة والمحدبة والمقعَّرة، ليرى فيها أدق تفاصيله. وهل أحد يظن أنه في غنى عما في صدور الرجال؟. والله يقول:- {وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} ويقول:- {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}. وهذا موسى عليه السلام كليم الرحمن، ومن أولى العزم من الرسل يقول للخضر:- [هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا]. وكم يهديك من لا تُلقي له بالاً، [ويأتيك بالأخبار من لم تزود]. ومن لطائف المتداول، أن عالماً نِحْريراً متبحراً، تضرب له أكباد الأبل، سئل عن ميراث الخنثى المشكل، فلم يحر جواباً: أيكون ذكراً أم أنثى؟، وكان قريباً منه رجل معتوه، فلما رأى ارتباك العالم، قال بصوت خافت: [أَتبِعْ المالَ المبالَ] فتنبه العالم، وأفتى بأن يُنْظر من أين يبول الخنثى، لتتحقق أنوثته، أو ذكورته. ومن الصفاقة والحماقة أن يستبد المتعالم ببضاعته المزجاة، أو أن يركن العالم الفذ إلى ما يتداوله أنداده من أحكام:- [فكلا طرفي قصد الأمور ذميم]. وها نحن نفاجأ كل يوم بنسف مسلمات توارثناها، على أنها مما علم من الدين بالضرورة، ولم يخطر على بال أحدنا أنها ستكون يوماً ما مرجوحة، وأن في بطون الكتب ما ينقضها عروة عروة:-[ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً]. والْعَظُّ بالنواجذ على السنة اعتقادًا وعملًا من محققات السلفية. وأمام كل احتمالات الاختلاف، فإن علينا أن نتفسح للمجتهدين من العلماء، والمتميزين من المحققين والثقات، وألا نضيق بالتساؤل، ولا بالمخالف، إذا كان متأولاً. فهل ضاق الرسول صلى الله عليه وسلم من الشاب الذي طلب منه أن يبيح له الزنا؟ وهل ضاق الرسول صلى الله عليه وسلم مما يخطر على بال أحدنا من أسئلة، حتى ولو كانت عمن خَلَق الله؟ ومع لينه صلى الله عليه وسلم، ورفقه بأمته، فهو من أبرع المفاوضين، وأشد المحاورين، والمجادلين رباطة جأش. ولعلنا نذكر جدله مع المشرك [عتبة بن ربيعة]، فقد جاء في الحديث عن أبي عبدالله الحافظ، “قال: قال محمد بن كعب حُدِّثْتُ أن عتبة بن ربيعة، وكان سيداً حليماً، قال ذات يوم، وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحدهْ في المسجد: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى هذا فأكلمه، فأعْرضُ عليه أموراً، لعلَّه أن يقبل منها بعضها، ويكفَّ عنا، قالوا: بلى يا أبا الوليد. فقام عتبة، حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث بطولة وما قال له عتبة، وما عرض عليه من المال والملك وغير ذلك، فلما فرغ عتبة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفرغت يا أبا الوليد قال: نعم. قال: فاسمع مني. قال: أفعل." فانظر كيف استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم، بكل رحابة صدر، ورباطة جأش، ورجاحة عقل، أن يصغي بكل هدوء إلى ذلك المشرك الجلد، الذي حاول أن يثنيه عن إبلاغ الرسالة، مقابل رئاسة ومال ونساء، وأن يدعه حتى فرغ من هرائه، بل لم يبادره بالرد، وإنما سأله: هل لديه مزيد قول؟ ودعاه بأحب الأسماء إليه:- أفرغت يا أبا الوليد. - فأين نحن من لغة التفاوض؟ - وأين نحن من ضرورة العدل مع الأعداء، والأصدقاء، على حد سواء؟ - وأين نحن من التوجيه الكريم:- {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ}؟. ومما تتداوله العامة، مما هو محسوب من التاريخ الشفهي زمن استفحال فتنة الإخوان في [نجد] قبيل [حرب السبلة] التي أنهى الله بها أخطر فتنة بين المسلمين في عهد المؤسس رحمه الله. أنهم كانوا يعتدون على كل مخالف بالسلب والقتل، وذات مرة، لقيهم ركبٌ، فسألوهم عما هم عليه من الاعتقاد. فقال ذكي ماكر من الركب:- [نحن مشركون] والله يقول:- {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} إلى آخر الآية. فعصموا أنفسهم من السلب والقتل، ولو قالوا:- نحن مسلمون، ولسنا من الإخوان، لكان مصيرهم السلب والقتل. ولو قرئ التاريخ بالبصائر لا بالأبصار، لحسمت فتن كثيرة، ولكننا قوم تقع على سوادنا الأعظم مقولة:- [العرب لا يقرؤون، وإذا قرؤوا لا يفهمون]. فلْنُعِدْ قراءة الملل والنحل، والتاريخين الحضاري والسياسي، وسير أعلام النبلاء، لنرى مدى ما نحن عليه من جهل في تراثنا الذي سبقنا إليه المستشرقون، وحرفوه من بعد مواضعه. ولقد يسوؤني كثيراً ما أسمع، وأرى عبر القنوات من مناكفات فكرية وطائفية، وتنابز بالألقاب، وتسرع في التصنيف، ومجازفة في الأحكام، بحق مجتهدين، نختلف معهم، وحقهم علينا أن نتفسح لهم، ونحترمهم، ونجلهم. وكان بالإمكان أن نخفف من وطأة تطرفهم، لو أحسنا الجدل معهم، إذ كيف نضمن تراجع المخالف، ونحن نصفه بالزندقة، أو نحكم عليه بالتشيع، وهو مسلم موحد، يدعي انتماءه لأهل السنة والجماعة، ولديه غزارة في العلم، وقدرة على الاستنباط. والمؤسف أن القنوات الفارغة، تستعدي أنصاف العلماء، والأحداث على علماء متبحرين، نقطع بأن ما يذهبون إليه مفضول، أو مخالف لمحققات السلفية، غير أن أخطاءهم لا تُخوِّلنا من تصنيفهم، ولا الحكم عليهم، ولا سيما أننا نثق بالنصر حين ندرأ بهم في نحور المارقين. لقد كنت أتابع علماء أجلاء من آفاق المعمورة، وأعجب من تعصبهم لقضايا محسومة، وخوضهم في شُبَهٍ اهترأت من التقليب، ولكن هذا لا يخولني النيل منهم، ولا الحكم عليهم، ولا التسرع في تصنيفهم. وليس يمنع شيء من ذلك من الرد عليهم بالحكمة، والموعظة الحسنة، مع الاحتفاظ بقيمتهم، ومكانتهم، وأهليتهم للاجتهاد. وحين أحسُّ بعجزي عن التصدي والصمود، وامتلاك الأعصاب، ورباطة الجأش، فإن من الخير لقضايا أمتي أن ألوذ بالصمت، فالخروج إلى المشاهد بالإمكانيات الضعيفة، لا تزيد الأمور إلا خَبَالاً. وشهوة النقائض بضاعة الشعراء، وليست سمة العلماء، وبلادنا مثابة للناس، وأمنا، وإليها تهفوا أفئدة المؤمنين، وحين يتسم العلماء منَّا والمتعالمون بالنزق، والتسرع، والسخاء بالأحكام، على المخالفين، وتصنيفهم، نعطي صورة غير سوية، ولا سيما أن لكل عالم مريدين، ولكل نحلة أتباع، وخسارة العالم خسارة لأتباعه، ونحن في غنى عن صناعة الأعداء، وهل يضيرنا أن نكون بارعين في صناعة الأصدقاء، وتحييد من لم نستطع كسبه؟. إن زمناً يفيض بالمتناقضات، وتستفزه ثورة المعلومات والاتصالات بحاجة إلى علماء ومفكرين يدرؤون عن بلادهم ويلات الفرقة والعداوة. فَلْنُخَالِصْ الموافق، ولْنُخَالِقْ المخالف، فلربما يكون في رضاه دَرْءٌ للمفاسد، وجلب للمصالح. وهذا [أبو الدرداء] -رضي الله عنه- يتهلل في وجوه أقوامٍ، وإن كرههم قلبه. فماذا لو امتثلنا قوله عزّ وجل:- {وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} واستجبنا لقوله: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}.