"هذه التظاهرة الثقافية الرائعة التي يُمثلها معرض الرياض الدولي للكتاب في نسخته السابعة، هي الأهم على المستوى العربي، وقد سحبت البساط تقريباً من تحت كل تلك الفعاليات والمعارض التي كانت تُمثل دول المركز.." بهذه الرؤية النابعة من فكر حر وصادق ومتجرد، القى أحد المثقفين المغاربة المتواجدين كضيوف شرف في معرض الرياض الدولي للكتاب هذه الحقيقة الصادمة في بحر الثقافة العربية التي عاشت طويلاً على مسلّمات وقناعات، أكثرها محض ادعاء أو مجرد حلقات من الاوهام المتراكمة، أسست، بكل أسف الكثير من الفصول المهمة من حركة الثقافة العربية، بل والمسيرة النهضوية العربية على وجه العموم. المرحلة الحرجة التي يمر بها عالمنا العربي، تتطلب منا جميعاً - مراكز وأطرافاً - أن نُشيع ثقافة الحب والتآخي والحوار والتسامح والقبول بالآخر، لا أن تتفشى بين مجتمعاتنا العربية الرائعة ثقافات التصنيف وسلوكيات الفرز، ولنجعل من تنوعنا وتمايزنا مصدراً للثراء والتميز، وليس مدعاة للتهميش والإقصاء والتمييز نعم، كبيرة جداً بحجم الدهشة والاستغراب، كانت هناك تصنيفات جائرة قسمت الوطن العربي إلى مجتمعات متقدمة وأخرى متخلفة، وشعوب مثقفة وأخرى بدوية، ودول مركزية وأخرى هامشية. لقد عانت تلك الدول والشعوب والمجتمعات، والتي اطلق عليها تهكماً وسخرية بدول الاطراف والهامش، من ظلم وغطرسة وتهميش المثقفين والنخب والساسة العرب الذين يُمثلون - كما يدعون طبعاً - دول المركز والمحور. يبدو أن تلك التصنيفات الكريهة، وذلك الفرز البغيض، تشكل منذ وقت مبكر عند أولئك القومجيين العرب، بحيث أصبحت ثقافة التصنيف والتمييز والتهميش هي المسيطرة على الوعي العربي الجمعي، مع وجود بعض الاستثناءات طبعاً هنا وهناك، خاصة لدى طبقة عربية مثقفة حذرت كثيراً من تجذر هذه التصنيفات الجائرة في فكر وذائقة وسلوك المواطن العربي، لأنها - أي تلك التصنيفات - ستؤسس بلا شك لحالة من الانقسام والتشظي العربي الذي يُعاني أصلاً من الكثير من المشكلات والأزمات والتحديات. وهذا ما حدث فعلاً، حيث قُسم الوطن العربي إلى دول مركزية ودول هامشية، لتبدأ فصول الانقسام العربي، وتحديداً من الوعي الثقافي والفكري والفلسفي. نعم، هناك الكثير من التمايزات والاختلافات والفروقات بين مختلف الدول العربية. ونعم، تمتعت بعض الدول العربية بعمق حضاري وتاريخي وسياسي ونضالي فاق مثيلاتها من الدول الناشئة التي خرجت للتو من حالة العفوية. لا أحد يُنكر ذلك، ولايمكن القفز على التاريخ والجغرافيا. تلك هي الحقيقة التي يعرفها ويُقرها الجميع، ولكن هذا لا يعني أن تبقى تلك الدول والمجتمعات العربية الحديثة في دائرة التخلف والعفوية، وأن تظل تابعة أو عالة على الآخرين من دول المركز والمحور. قبل اكتشاف النفط، عاشت منطقة الخليج لعقود طويلة تقتات على ما تنتجه عواصم المركز العربي، وهي القاهرة وبيروت وبغداد ودمشق، سواء أكان هذا الانتاج فكرياً أو مادياً، ولكن مع التحول الكبير الذي طرأ على المنطقة، بل على العالم بأسره، حيث أصبحت هذه الدول الحديثة نسبياً المركز الاقتصادي الاهم الذي يُغذي العالم بمصادر الطاقة، وعلى رأسها النفط، هذه المفردة التي كانت ومازالت تُزعج الكثير من القومجية العرب الذين تمتلئ قلوبهم حسداً وبغضاً لهذه المنطقة التي حباها الله بالخيرات والثروات والإمكانات. نعم، ظهر النفط، فتغير كل شيء تقريباً، إلا تلك النظرة الدونية التي يحتفظ بها البعض، باعتبار أن هذه الارض القاحلة البسيطة لا تستحق ذلك التطور والتقدم والتمدن. رغم كل تلك التحولات والتغيرات الكبرى التي غيرت وجه الدول الخليجية إلا أنها مازالت هامشية، في نظر البعض طبعاً. هذا التحول الكبير لدول الخليج، والذي طال الكثير من التفاصيل والجوانب، لاسيما القطاع الثقافي الذي يُعتبر المحرض الأهم لإحداث تنمية شاملة ومستدامة لأي مجتمع، هذا القطاع الحيوي الذي شهد ثورة نوعية وكمية حقيقية، لم يستطع - بكل أسف - أن يُقنع تلك النخب العربية التي لا تُريد أن تصدق بأن ثمة تحولات وتغيرات جذرية حدثت في الوطن العربي، أعادت من جديد تشكيل وصياغة المشهد الثقافي والفكري العربي. نحن الآن، من دول المركز والمحور، ولم نعد من دول الاطراف والهامش، ولن نُمارس - أو هكذا يُفترض - تلك العادة العربية الكريهة التي عانينا منها كثيراً، وهي إجراء تصنيف ظالم لدولنا وشعوبنا ومجتمعاتنا. لا، لن نفعل ذلك، ولا يجب أن نفكر في ذلك أصلاً. إذاً، دول الخليج بإمكاناتها وثرواتها، البشرية والمادية تتصدر الآن المشهد الثقافي والفكري والاقتصادي والسياسي العربي، وتُعتبر الرياض بلا أدنى شك هي عاصمة الثقافة العربية ومركزها الأهم وذلك بما تغص به أجندتها الثقافية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية من مهرجانات وملتقيات ومعارض وفعاليات، هي الاهم والاكثر تأثيراً على مستقبل الوطن العربي. تلك حقيقة، وليست مجرد ادعاءات او اوهام. طبعاً، أنا لا أقول بأن هذا الوطن الكبير ممثلاً بعاصمته الرياض، مدينة فاضلة يسكنها مجتمع ملائكي. أنا لا أقول ذلك، ولا أظن بأن أحداً يقول ذلك. إن المرحلة الحرجة التي يمر بها عالمنا العربي، تتطلب منا جميعاً - مراكز وأطرافاً - أن نُشيع ثقافة الحب والتآخي والحوار والتسامح والقبول بالآخر، لا أن تتفشى بين مجتمعاتنا العربية الرائعة ثقافات التصنيف وسلوكيات الفرز، ولنجعل من تنوعنا وتمايزنا مصدراً للثراء والتميز، وليس مدعاة للتهميش والإقصاء والتمييز..