تحدثت عن كثير من قيمنا الإسلامية التي دعوت ملحاً إلى التحلي بها، والحفاظ والحث الدائم على التمسك بها في أحوالنا الشخصية والأسرية وتعاملاتنا الاجتماعية، بل هي ضرورة لسعادتنا الوطنية، وعلاقتنا الإنسانية. وخطر ببالي خاطر وأنا أتجول فيما كتبته من مقالات عن هذه القيم، قفزة عقلية تسألني: هل كل مخلوق حي يعرف معنى القيم، ويفهم حدودها؟ قلت رداً على هاجسي: ليست القيم إلاّ في عالم الإنسان، ولا يعرفها حق معرفتها إلاّ العاقل. العلم هو ذخيرة العقل، وبدونه يكون عقلاً خاوياً ولا منهج لصاحبه، ولا معرفة له بفضائل الأمور، وعظيم القيم مما يجعل العلم دليلاً عملياً على العقل، وتقديراً لكمه، وبياناً لآثاره، وربما يكون العلم هو باستعمال العقل في التدبر والتأمل في الحياة أكثر من استعمال الكتب.. لا أظن أن في عالم الطير والحيوان قيماً مثل التي في حياتنا نحن البشر!! لكن هاجساً آخر قال لي: كيف تعلل إحضار الطيور الكبيرة الغذاء لصغارها، وبم تفسر دفاع الحيوانات الكبيرة القوية والصغيرة عن مواليدها؟ أليس هناك عقل يحركها؟ أليس هناك فهم لهذه المواقف عندها؟! هل لدى المخلوقات - غير الإنسان - عقل وعلم بهما تنتظم حياتها، وتتعامل مع الآخرين من بني جنسها؟ أم أنها غريزة فطرها الله عليها، ثم أدركتُ الفرق بين الغزيزة والعقل فالغريزة محركة للسلوك، والعقل مدبر له وحافز على فعله. لا شك في أن الله سبحانه وتعالى منح كل الكائنات الحية قدراً من الغرائز الذي به تدبر حياتها؛ فالطائر الكبير يبحث عن الطعام لابنه الصغير، ويعود إليه دون أن يضل الطريق أو الشجرة أو الغصن الذي بنى له عليه العش الذي فيه، والنمل نراها أحياناً تسير في خط منتظم قد يكون أمتاراً، هذا ذاهب وهذا في خط آخر عائد من هذا المكان الذي نادتهم فيه نملة أن يحضروا لتناول شيء حلو فيه نظام هائل ما بعده نظام، وهكذا؛ مما يؤكد أن لدى الكائنات الحية ما يشبه العقل في تنظيم حياتها. ثم إن هناك مواقف كثيرة - في حياة الكائنات الحية الدقيقة - فيها ما يدل على لمحات من القيم، فمن ذلك ما يوحي بالتكافل الاجتماعي. فألا يوحي هذا بفهم الروح الجماعية والحرص على حياة أفرادها!! في مثل قول الله تعالى: (وإذ قالت نملة يأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون). ومن التعاون في كسب الرزق أن ترى أسراباً من نوع من الطيور لا تختلط به أنواع أخرى محلقة في السماء ذاهبة أو راجعة من مكان فيه طعام. لكن عقل الإنسان أكبر.. أكبر، واتساعه للعلم أرحب وأشمل: لولا العقول لكان أدنى ضيغم أدنى إلى شرف من الإنسان ولربما طعن الفتى أقرانه بالرأى قبل تطاعن الأقران إن العقل هو موطن الفهم والعلم، وبهما ميز الله الإنسان في واسع إمكاناتهما، وبهما يتميز الإنسان وتحمد له حياته، حتى أن من لا عقل ولا علم له هو ممن قيل عنهم (السفهاء) كما ورد في سورة البقرة. السفيه هو الجاهل الضعيف الرأي، القليل المعرفة بمواضع النفع والضر. إن العقل هو أفضل مواهب الله للإنسان. وأفضل قسم الله للمرء عقله فليس من الخيرات شيء يقاربه إذا أكمل الرحمن للمرء عقله فقد كملت أخلاقه ومآربه وقال أبو حاتم (العقل نوعان) مطبوع ومسموع، فالمطبوع منهما كالأرض، والمسموع كالبذور والماء، ولا سبيل للعقل المطبوع أن يخلص له عمل محصول دون أن يرد عليه العقل المسموع فينبهه من رقدته، ويطلقه من مكامنه. قال الشاعر: يزين الفتى في الناس صحة عقله وإن كان محظوراً عليه مكاسبه يشين الفتى في الناس خفة عقله وإن كرمت أعرافه ومناسبه وقال آخر: إذا تم عقل المرء تمت أموره وتمت أياديه، وتم بناؤه فإن يكن عقل تبين نقصه ولو كان ذا مال كثيراً عطاؤه والعقل هو العامل الحاسم في طريقة معاملات الناس مع بعضهم. عدوك ذو العقل أبقى عليك من الجاهل الوامق الأحمق وذو العقل يأتي جميل الأمور ويقصد للإرشاد الأرفق ومن هنا فإن العقل هو الذي يقودنا إلى معرفة القيم العظيمة والأمر باتباعها، ومعرفة مزاياها وآثار التمسك بها،ولذا كلف الله - سبحانه وتعالى - الإنسان دون غيره بحمل الأمانة لأنه صاحب عقل. هذا والعلم هو ذخيرة العقل، وبدونه يكون عقلاً خاوياً ولا منهج لصاحبه، ولا معرفة له بفضائل الأمور، وعظيم القيم مما يجعل العلم دليلاً عملياً على العقل، وتقديراً لكمه، وبياناً لآثاره، وربما يكون العلم هو باستعمال العقل في التدبر والتأمل في الحياة أكثر من استعمال الكتب. يقول الشاعر: يا ساعياً وطلب المال همته إني أراك ضعيف العقل والدين عليك بالعلم لا تطلب له بدلاً واعلم أنك فيه غير مغبون العلم يجدي ويبقى للفتى أبداً والمال يفنى ولو أجدى إلى حين هذان هما القائدان (العقل، والعلم) إلى معرفة القيم العظيمة التي هي أسس الحياة الكريمة السعيدة للإنسان. لم أجد وصفاً للعقل مثل ما وصفه سعيد بن جبير حين قال: "ما رأيت للإنسان أشرف من العقل؛ إن انكسر صححه، جذبه واستنفذه، وإن افتقر أغناه، وأول شيء يحتاج إليه البليغ العلم الممتزج بالعقل". أشدد مؤكداً على أهمية العقل للإنسان، ويكفي أن الله رفع الأوامر عمن لا يعقل، وعقل بلا علم ليس عقلاً كاملاً. إنك لتجد اثنين متلازمين؛ هذا يهديه عقله إلى العلم بالقيم، وجميل نفعها، وطيب آثارها، وهذا اشتط به عقله، وطمس عنده طيبات الأخلاق والقيم فعاش شقياً، وتاهت به الحياة فلا يدري أين الصواب. علينا أن نحمد الله على نعمتي العقل، والعلم حمداً كثيراً طيباً دائماً؛ فهما نعمتان متلازمتان يحميان قيمنا الإسلامية الإيمانية من أن تذبل يوما إذا ما وظفناهما كما ينبغي أن يوظفا. وفقنا الله جميعًا إلى الخير والصواب والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها، اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.