المقولة السابقة تمثل مبدأ أخلاقيًا في التعامل بين الناس، وأساسًا للحوار والتفاوض الذي يهدف إلى التواصل الإيجابي بين طرفين. وأصل هذه المقولة أنها مثلٌ من أمثال العرب، ومعناه إذا اشتدّ أخوك فكُن ليّنًا معه؛ والمراد من ذلك أن يُداري المرء أخاه ويحتمل غضبه إذا غضب، ولايُقابل شدّته وصلابته بمثلها لكي لاينقطع ما بينهما من ودّ وإخاء. والملاحظ اليوم في كثير من الحوارات والمفاوضات العربية أن كل طرف من الأطراف يظل متمسّكًا برأيه ومحاولا إلزام الطرف الآخر بقبوله والتسليم به، بل إن هناك من يلوّح بشعار الديمقراطية والحريّة لكي يأخذ الكلمة والوقت، فإذا استلمها تمادى فيها وراح يكيل التهم والسباب للطرف الآخر وانتهى إلى مطالبته باتباع ما هو عليه من رأي أو موقف من منطلق أنه على صواب تام وأن غيره على خطأ مؤكد. والواقع، أن من يتابع الشأن المصري هذه الأيام وما يجري فيه من حوارات ولقاءات متنوعة، يلاحظ هذه السمة في التعامل، وهي سمة عربية نجدها مكررة في أكثر من مكان ومع أكثر من شخص. هناك ثغرة مفقودة بين الأطراف، وهي أن كل طرف ينطلق من زاوية مختلفة عن الآخر ويرى ما لايراه صاحبه، ومن الطبيعي في ظل غياب أرضية مشتركة يقف عليها الطرفان أن يكون الحوار -مهما طال- صادرًا من جهة واحدة فقط. لقد أصبح الحوار عبارة عن أصوات مرتفعة هنا وهناك، وبهذا صار مفهومًا أن يخلو من القيمة الحقيقية التي يتطلبها الحوار، وهو في الحقيقة ليس حوارًا بقدر ماهو اجتماع جرى فيه كلام. إن الحوار يجب أن يعتمد على فكرة التقارب؛ فإذا اشتد طرف لان الآخر، وإذا ارتخى طرف قوّاه الآخر لأن الهدف هو أن يصل الطرفان معًا إلى حلّ يرضيهما بالتساوي، وليس الهدف هو أن يُرضي كل واحد نفسه ويُغضب صاحبه. إن رفع الصوت والغلظة واستخدام الكلام الجارح والتهديد والقدح ليس سوى تعبير عن ضعف الشخص في إيصال رسالته؛ وإذا ما اعتدنا على التحرّر من أخذ الأمور مأخذًا شخصيًا فلن نستطيع أن نتحرّك بالحوار إلى الاتجاه الصحيح. أتذكر في بعض الاجتماعات، أن يتقدّم عضو باقتراح معين، وحينما يبدأ المجتمعون بمناقشة هذا الاقتراح وقد يرون عدم جدواه، فإن صاحب الاقتراح أو صاحبته يثور ويغضب ويخرج من الاجتماع. لماذا هذا الغضب؟ السبب يعود إلى أنه نظر إلى الموضوع من منظار شخصي بحت، فوجد في رفض اقتراحه إهانة لشخصه، ولهذا قرر المغادرة وربما يقاطع الاجتماع ويقاطع الأعضاء. وهذا تصرّف أهوج يدلّ على أن هذا الشخص لم يتحرر من الذاتية ولايُحسن التعامل بموضوعية مع القضايا. ولهذا المثال نظائر أخرى في الحياة، فقد يُعلي الناس من فكرة معينة ليس لأنها متميزة في ذاتها، ولكن لأنها صدرت من شخص معين له قيمة اجتماعية أو له سلطة معينة عليهم، وقد لايولونها اهتمامًا حتى لو كانت ذات جدوى وقيمة عالية لأنها صدرت من شخص مغمور. إن مركب الحياة يتطلب التكيف مع المتغيرات والمواءمة بين الأمور، وفي الأمثال الشعبية يُطلب من الزوجين ألا يكونا حجفتين، والحجف هو اليابس من التمر الذي لايلتئم مع بعضه. والمقصود أن الحياة الأسرية تتطلب أن يكون هناك تفاهم وانسجام، فإن كان أحد الطرفين حجفة فليكن الآخر تمرة. بمعنى أن يجتمع اللين والشدة معًا حسب المواقف؛ فاللين الدائم والصلابة الدائمة ليسا حلًا لكل شيء؛ لأن متطلبات المواقف تقتضي المزج بين أكثر من حلّ لكي تمضي الحياة بشكل منسجم. ومن المؤكد أن الشخص الذي يريد أن ينتصر في كل شيء ويفوز بكل شيء وحده، سوف يخسر في النهاية لأنه سيفقد الآخرين. وسأختم هذه المقالة بإحدى قصص العرب القديمة التي يُروى فيها أن رجلاً من بني عمرو سافر مع رجل من بني سعد وقد قاتلا معًا وبعد أن غنما وعادا أرادا اقتسام الغنيمة بينهما، وكانت الغنيمة ماشية كثيرة وإبلا؛ ولكثرة الماشية قالا نجعلها تتّجه صوب جبل، فما ذهب يمينًا فهو لأحدهما وما ذهب يسارًا فهو للآخر. وبعد أن اتّجهت الغنم للجبل مالت أغلبها نحو اليسار الذي كان من نصيب الرجل من بني عمرو، فوجد نفسه قد زاد على صاحبه في الغنيمة؛ فلما جاء تقسيم الإبل قال لصاحبه: إن لي إبلاً كثيرة وليس في أرضنا من الكلأ ما يكفيها، فإني سائلك بالله أن تأخذ الإبل كلها لكي تنقذني منها؛ فقبل بها صاحبه وهو يعرض عليه أن هذه الإبل له في أي وقت أرادها. وانتهيا إلى الصفاء والأخوة وافترقا على الوفاق والود. وفي مثل هذا الموقف.. قال الشاعر العربي: ولاغرو أن أعنو له بعد عزّةٍ فقدري في عز الحبيب يهون