ورد في إحدى المقولات المشهورة: "بالتفاوض لا بالتهديد تُحقق مطالبك". وتُوضّح التجربة أن الناس الذين يستخدمون العنف وسيلة من أجل تحقيق مطالبهم لاينجحون دائمًا، ولو نجحوا مرة، فإنّ نجاحهم مرهون بأسباب مؤقتة لايصحّ تعميمها. وكثير من الناس لهم مطالب في الحياة يريدون تحقيقها بسرعة، مثل التوظيف أو في الترقية أو في النقل أو في العلاج أو في التعليم أو في تحصيل حق معين وغير ذلك من مطالب الحياة المختلفة. ويلاحظ أن بعضهم يتّخذ أسلوب العنف وسيلة للتعامل عند سعيه لتحقيق مطلبه. فتجد البعض حينما يغضب يرمي الملف في وجه الموظف أو يشتم أو يهدد ويتوعد أو يلجأ إلى العراك، وكأنه يعتقد أن هذه الوسيلة مناسبة للتفاوض. ويُرجع بعضهم عنفه إلى الطريقة التي اُستُقبل فيها أو إلى ما يُكنّه في نفسه من حنق قديم أو إلى غير ذلك من المسوّغات التي لاتعفي الشخص من اتّخاذ العنف وسيلة للتعامل. إن هذا العنف في السلوك مرتبط بنمط الشخصية وسماتها العقلية التي تجعل صاحبها غير قادر على المضي قدمًا في الحوار والنقاش بسبب ضيق مساحة الشعور عنده، فتجده غير قادر على ممارسة أي سلوك يتطلب وقتًا طويلا يقوم على تبادل الأدوار كالأخذ والعطاء، والحديث والاستماع، واستخدام آليات عقلية كالإثبات والإبطال، والبرهنة والنقض، وغير ذلك من متطلبات التفاوض. وإذا كان التفاوض يتطلب حوارًا بين طرفين أو أكثر، فهذا يعني أن هناك اعتبارات متعارضة ينبغي تسويتها. ولكي تحصل التسوية بطريقة إيجابية، فإن كل طرف يؤمن بأنه لابد أن يُقدّم تنازلات معينة مقابل الفوز بما يقابل تلك التنازلات. ولهذا، فإن أهم مبدأ للتفاوض هو وجود روح "التسامح" التي تعني غض الطرف عن العناصر السلبية عند الطرف الآخر وخاصة ما كان منها قديمًا ولاعلاقة له بالموضوع، بما يعني العفو عن المواقف السلبية السابقة وعدم اجترارها في كل مرة. ويُعدّ التسامح صفة أخلاقية مرتبطة بالعقل أكثر من ارتباطها بالجانب النفسي، لأن العقل حينها يقيم توازنات منطقية تنطلق من الواقع، ويجد أن الواقع الحالي يختلف -بالضرورة- عن الواقع السابق، ولهذا ليس هناك مبرر منطقي لجلب الماضي (السلبي) إلى الحاضر. على أن الشخص المتسامح هو شخص يتّسم بنمط فكري يُسمّى "الامتدادي". ومن صفاته أنه يرى الحياة ممتدة، وكل ما يحصل فيها من أحداث ومواقف ومتغيرات هي أمور مرتبطة بظروف معينة لايمكن تكرارها بذاتها، وأي إعادة لها هي مجرد استرداد لجزء منها مع حذف أجزاء أخرى مهمة. فعلى سبيل المثال، فإن اليوم ليس تكرارًا ليوم الأحد الماضي، وأي فعل فيه ليس تكرارًا لفعل مشابه في الماضي، لأن المتغيرات المحيطة بكل عنصر قد تبدّلت: كالمحيط والزمان والمكان والحالة النفسية والحالة الاجتماعية للفرد وللمجموعة. وعليه، فإنّ هذا اليوم، هو يوم مختلف بظروفه ومتغيراته. وليس من المنطقي عند أصحاب هذا الفكر استعادة مواقف سلبية قديمة وربطها بمواقف جديدة مشابهة. ومن هنا، فإن هذا النمط من الشخصيات أقدر من سواهم على التفاوض وتحقيق مكاسب عملية لأنفسهم ولشركاتهم وللجهات التي يمثلونها. مقابل أن الأشخاص من أصحاب الفكر المضاد للامتدادي وهو ما يُسمّى ب"الدائري"، تقتصر مكاسبهم على الجانب اللغوي والعاطفي، وتشيع في قواميسهم عبارات مثل: "ألقمته الحجر"؛ و"سحقته"؛ و"ألجمته"..إلخ. وبالمناسبة، فمن طبيعة صاحب الفكر الدائري أنه شخص مرتدّ على ذاته، يجد في نمطية الحياة متعته، فهو يخاف من التغيير، ويألف ماسبق تجريبه، ويتعامل مع ما هو معروف على ماهو جديد. وأعظم إنجاز يمكن أن يقدمه هو تكرار ماسبق للآخرين إنجازه. وهو باستمرار مشدود إلى عواطفه ولايستطيع الفكاك من المواقف السلبية القديمة ويوظفها في حياته بما يُعيق تعامله ويجعله أسيرًا للحقد والشكوك. ولا يتوقّع من هذا النمط أن يكون متسامحًا فضلا عن أن يصفح أو يعفو عن أحد. ومما يجدر ذكره أنّ التسامح يعني التركيز على العناصر الإيجابية ذات الأهمية مع إغفال العناصر السلبية بما يتطلبه التوافق الاجتماعي، دون أن يعني "الصفح". ذلك أنّ الصفح يتضمّن تنازلا عن حق مقرّر مكفول للشخص أو للمجموعة. وللصفح اعتبارات وسياقات ثقافية تختلف عن التسامح. ومن هنا، فإن المطالبة بالتسامح لاتعني المطالبة بالصفح، من منطلق أنّ التسامح سلوك ذاتي ضمن آليات التفكير البشري، في حين أن الصفح موقف إنساني له إطار ثقافي معين.