تندرج الحكاية الشعبية في إطار المصطلح العام الذي يتضمن أشكالًا من السرد في تعابيرها الشفاهية، إذ تسرد من خلال راو افتراضي سلسلة من الأحداث المتخيلة، ويعتمد هذا النص مختلفًا عن غيره على ثلاثة أسس: أولها ارتهانه إلى النقل الشفاهي، وثانيها انتماؤه إلى الثقافة التقليدية، أما ثالثها فهو كون مضمونه دنيويًا لا دينيًا. وتنبغي الإشارة إلى أن ذاكرة الثقافة العربية تحفل بثراء لا يحدّ في موروثها الشعبي، اكتسبته نتيجة التاريخ الضارب في عتاقته، والموقع الجغرافي المتميز، وتعدد أنواع الثقافات السائدة والبائدة، لذا فإن جمع هذا الموروث متضمنًا النصوص الحكائية الشعبية، يعد خطوة أولية مهمة تستحق التقدير والمتابعة، وهو ما حدث حين تفاعل عدد من الباحثين العرب وقامت بعض المؤسسات بهذه المهمة، إلا أن المهمة في رأيي لم تنته بعد، إذ لا تزال الحكاية الشعبية في البلدان العربية منجمًا يمكن استثماره على مدى طويل قادم جمعًا وتحليلًا، وذلك من خلال الاستفادة من تناولها درسًا وتحليلًا في إطار المناهج النقدية الحديثة. وإذا كانت نصوص الحكايات الشعبية قد حظيت منذ الروسي (فلاديمير بروب) بعد نشره لكتابه المعروف (موفولوجيا الحكاية الخرافية) بمقاربات منهجية أضحت عالمية، وكانت تطمح إلى خلق جسور علمية تتصل بفضاءات سردية، تفاعل بعضها باحثًا عن الشكل، وبعضها عن المعنى، فإن السير على ذلك المنوال دون تحديثه، وخلق البيئة الملائمة له، وتفعيل ذلك النهج دون غيره حري أن ينتج لنا دراسات نقدية متشابهة وغير فاعلة. لذلك فإن ادعاء إيجاد مخرج نقدي يختلف عن ذلك النمط من الدراسة والتحليل يتناسب تمامًا مع قد ما نرمي إلى تحقيقه، ويصل إلى عمق الهدف المرجو، كونه يتوافق أولًا مع تطلعات منهجية، يمكن أن تتحقق من خلال الكشف عن التأويلات الممكنة للنص الحكائي وتحقيق شعريته، عن طريق تفعيل مفاهيم نقدية حديثة لها آلياتها المعروفة، التي أكدت دورها في التعامل النقدي مع النصوص الحكائية، ويضمن ثانيًا الخروج من دائرة التجربة المنهجية الخاضعة لنماذج قد تبدو غير فاعلة مع غياب الاجتهاد المنهجي وافتقاد التأويل. إن أغلب نصوص الحكايات الشعبية التي تستجيب للقراءة النقدية قد أثبتت تغييرًا يتأكد في عتباتها الأولى، مثل العناوين والمقدمات (الاستهلالات) المتداولة، إلى جانب أن القراءة التأويلية لحكاية واحدة واجتثاثها من سياقها الضارب في العتاقة لن يساعد على التمكن من سبر الأنساق المحيطة بالحكاية نفسها، ويزيد هذا الإشكال بمرور الحكاية نفسها بلحظتي انتهاك متتاليتين: تتصل الأولى بلحظة التدوين الأولية، وتتصل الثانية بلحظة التلقي النقدي المؤدي أصلًا إلى إعادة تدوين جديدة وخلق آفاق أخرى للحكاية. إن التجربة التي نحاول اللجوء إليها ستكون خاضعة للاجتهاد والتأويل بوصفهما مدخلين مناسبين لقراءة الحكايات الشعبية المتعددة، وسترتهن إلى التناصIntertextuality بوصفه نظرية، أو لنقل: بوصفه مجموعة من المفاهيم تسعى إلى البحث من خلال تشعباتها المختلفة إلى الارتكان إلى قراءة النصوص بها ومن خلالها. ومع أن الفيلسوف الأمريكي (ويليام إيروينWilliam Irwin) قد تناول التناص بنقد حاد، وفكك أطروحات النظرية الفرنسية حوله، إذ يرى أن (رولان بارت) و(جوليا كريستيفا) قدما أفكارهما حول التناص في لهجة غامضة ومتمردة، ما أوجد شهرة للتناص في الغرب، وخلق للغموض حضوره وشهرته في الأدبين الأمريكي والإنجليزي، إلى جانب تجربة الأمريكيين في فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية التي جعلتهم أكثر تقبلاً للنظرية الفرنسية، كما يرى (إيروين) أن الناقد الأدبي الأمريكي (هارولد بلوم Harold Bloom) و(مايكل ريفاتير) قد عاشا المأزق نفسه في الإيمان بكون النظرية غير مقنعة وغير مضمونة، فإن هذا المدخل النقدي للقراءة والتحليل يتجاوز تلك الرؤيات ويرتهن إلى ثلاثة مستويات تناصية: التناص البنيوي الرأسي، والتناص الحكائي التناظري، والتناص الداخلى العكسي. سأحاول أن أصل إلى التعريف بتلك المستويات التي أراها مناسبة لإنتاج صورة متكاملة من التحليل النقدي الذي يشمل الأبعاد الستة الآتية: الرأسي والأفقي، والخارجي والداخلي، والتناظري والعكسي، ويتميز هذا البناء النقدي بكونه يضم آفاق التحليل المستهدفة في النصوص الحكائية المدروسة، وبكونه يتكامل في الكشف عن علاقاتها التناصية في الاتجاهات التي سبقت الإشارة إليها: التناص البنيوي الرأسيstructural intertextuality vertical: والتناص هنا في أبجديته الأولى يمثل فكرة مطورة عن المصطلح الشهير لميخائيل باختين "الحوارية"، وتفاعل هذا مع ما اقترحته جوليا كريستيفا "التناص" في مرحلته البنيوية، وهو وفقًا لمفهوم حديث يبدو أكثر وضوحًا ودقة لدى هنريش بليت Heinrich F. Plett"ما يشير إلى استعادة العلامات والقوانين النصية بين نصين أو أكثر". لكن المراد هنا سيكون مرتكنًا إلى بعدين اثنين: البنيوي، والرأسي. إذًا ستتم محاولة تتبع النصوص الحكائية التي تتصل بها الحكاية الحديثة بصورة رأسية، وتعتمد عليها ممارسة هذا النوع من إعادة الكتابة كما يقترح (جاك دريدا)، أو قتل الأب وفقًا ل (هارولد بلوم)، ونلحظ في كلا الاتجاهين المشار إليهما: إعادة الكتابة أو قتل الأب، وبه نوع من الإقرار المباشر بمبدأ العنف الذي ينطلق منه التناص، وهو الذي يتوافق إلى حد كبير مع مبدأ تدوين الحكاية الشعبية وإعادة كتابتها لتبقى ممارسة لا تتوقف، وحركة لا تنتهي، لا ينهيها سوى إنتاج دوائر من التأويل المتواتر، وستتم مناقشة هذا في إطار العلاقة البنيوية بين نص الحكاية الواحدة أو عدد من الحكايات مع بنيات نصوص حكائية موغلة في عتاقتها، وتمثل نصوصًا مؤسسة canonical texts في الثقافة العربية، وما يماثلها في الثقافات العالمية الأخرى، ومن هذه النصوص سنقتصر على ما يأتي: القرآن الكريم وما يناظره من كتب الأديان الأخرى وتحديدًا في كتب القصص التي تتناول الأنبياء والصالحين وغيرهم، كما تشكل أسطورة أوديب حقلًا مهمًا استلهمته الحكاية الشعبية، إلى جانب كتاب ألف ليلة وليلة. التناص التناظري الأفقي analogical intertextuality Horizontal: وهو التناص في صورته السابقة ولكنه معتمد على الشكل البنيوي من جانب، والامتداد بصورة أفقية من جانب آخر، وذلك يتم بالتفاعل بين نص حكائي ونصوص حكائية أخرى، وتشيع هذه الظاهرة في معظم حكايات الموروث الشعبي بصورة تستحق الإشارة إليه. التناص الداخلي العكسي reversal inner intertextuality: وهو العلاقة البنيوية التي تتم داخل النص الحكائي ذاته، إذ تتبدى بين حلقتين تتساويان في بنية النص الحكائي، لكن هذا التساوي يتجسد بصورة مغايرة، فتأتي الحلقة البنيوية الأخيرة عكس سابقتها، وذلك بوصفها خاتمة ذات بعد دلالي، تردُّ من خلاله اعتبار المظلوم أو المضطهد، وبوصفها عاقبة تجازي الظالم والمستبد، ويتحقق من خلال هذه العلاقة استكمال البنية السردية في نص الحكاية، فالأولى استهلال (الوضعية الافتتاحية) والتالية خاتمة لها (الوضعية الختامية) كما لدى عبدالحميد بورايو، مع صلاحية أن تكون كل حلقة منهما بنية لحكاية منفصلة عن الأخرى. وأخيرًا، فإن ما يميز هذه المستويات التناصية السابقة هو كونها تتجلى في نص حكائي أو أكثر، وتسمح بالنظر إلى النص أو النصوص معًا، وتتلاءم مع نصوص الحكايات الشعبية فتجمع التعدد وتوحد التنوع، وهذا ما يتجلى بوضوح حال الممارسة على حقل واسع من نصوص الحكايات الشعبية.