مجريات الأمور والأحداث مرهونة بالظروف المحيطة بها، والحياة لا تستقر على حال تبعاً لتقلبات الأحوال وتطلع الإنسان لحياة أفضل، وقد يجني على المرء اجتهاده. وتباين الثقافات واختلاف البيئات دفع الإنسان إلى التفكير وفق املاءات البيئة وتوجيه الثقافة التي هي مزيج من ابتكار الإنسان ومكتسباته من ثقافات الآخرين، ولهذا عاش الإنسان بين مسالمة وصراع من أجل البقاء أو تحقيق الأمن والاستقرار، وبقدر التقدم الثقافي الذي يدعم حياته تتحقق الحياة المستقرة الآمنة، وينشغل بما يتناغم مع هذه الحياة، وهو صراع ولكنه لا ينتج إضراراً بالآخرين بل يساهم في تلبية احتياجاتهم، ولا أدل على ذلك من حالة المجتمعات المتحضرة التي تنهل من معين العلم والثقافة والمجتمعات البدائية التي تعتمد القوة مركباً للبقاء. وبلادنا عاشت شيئاً من البدائية التي لم تنزع إلى الشر لأنها مهما عانت من شظف العيش وقسوة الصحراء إلا أنها كانت تنهل من معينين، الأرومة العربية المهذبة بالاخلاق، ثم معين الدين الإسلامي الذي جاء متمماً لمكارم الأخلاق، ولذلك كانت الرحمة وقاية لشذوذ البدائية. وعند ما كانت القبيلة دولة ذات حدود يَحميها أفراد القبيلة بزعامة سيدها وتفاهم أطرافها فإن سعادتهم وأمنهم يعتمدان على محافظتهم عليها، وعقد معاهدات وأحلاف مع قبائل أخرى تماثلها في القوة البشرية والمساحة الأرضية لتحقيق تبادل المصالح وردع الطامعين من ذوي القوة والنفوذ. ومن التهذيب الذي يلغي جور الأقوياء إفساح مجال العلاقات الطيبة واحترام الحدود والقيم الفاضلة فيجري الاستئذان لدخول الأراضي الواقعة في نطاق قبيلة أخرى عليها أن تقدر الجوار مهما بعدت شقته، والعون مهما ارتفعت درجة العداوة تقديراً لظروف الآخرين. أما الاعتداءات والغزو فعادة ما تكون بين الأقوياء من أصحاب القطعان والممتلكات الزراعية، إما بسبب الثأرات أو جلب منافع للقبيلة الغازية، ويوم لك ويوم عليك، وقد يسبق الغزو نذير أو إعلان أو تحر من القبيلة المستهدفة والتي تبعاً للمفاجآت تعد رجالها لمواجهة الغازين بما يمثل جيشاً نظامياً. إذاً، مبرر الغزو هو المعاملة بالمثل والمفاخرة بالانتصار واعلان هيبة القبيلة وسد حاجتها من الغنائم، يعزز ذلك شعور رؤساء القبائل بمسؤوليتهم أمام القبيلة بألا تجوع ولا يلحقها هوان أو مذلة. وكانت موارد القبيلة محدودة تجود مع المطر وتنحسر بانحساره، فلم يبق أمامهم غير غزو الأثرياء. وهناك اعتداءات فردية (حنشل) تستهدف الأفراد والمواشي السائبة، تأخذهم على حين غرة منهم، وهذه ليست من مفاخر القبيلة ولا تقع في نطاق مسؤوليتها ما لم تتخط العرف، وتخالف الفضيلة فإنهم يعاقبون المعتدي. حياة مريرة عاشتها مجتمعات الجزيرة العربية البدوية وامتدت إلى استهداف الحواضر. خاضها الغزاة مضطرين، ونالوا من ويلاتها، وحاولوا التخفيف من حدتها بما وضعوا من أنظمة تمنع الاسراف في القتل والسلب وتحمى الأعراض، وتراعي الجوار والعهود. ومن نالته ويلاتها يدرك معنى الأمن والاستقرار الذي تعيش بلادنا، ويسأل الله العفو عما كان محل فخر واعتزاز. ومن أبرز رجال ذلك العهد من الفرسان المظفرين تركي بن حميد أحد شيوخ قبيلة عتيبة عرف بدينه وكرمه وفروسيته، وهو لا يختلف عن كثير من شيوخ القبائل، والذين يعرفون ما تعني القيادة من ترفع عن دنايا الأمور، وتطلع إلى الفضائل يدركون حرص القيادات على سمعتهم. ونحن اليوم كثير منا من يوجه اللوم لذلك الجيل ويصف حياتهم بالمهمجية والجنوح عن الدين وفضائل الاخلاق وفي ذلك ظلم لهم. لقد كان يؤلمهم ما يتعرض له الناس في هذه الصحراء من جوع وخوف وتناحر ولكنهم كما قيل: وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وان ترشد غزية أرشد وابن حميد رحمه الله لم يبدع قصيدة إلا وحث الناس على التمسك بالدين وبمكارم الأخلاق، وعندما يتحدث عن الجود والكرم والقيادة يرى أن هناك ما هو خير من ذلك: واخير منها ركعتين بالاسحار لن طاب نوم اللي حياته خسارة تلقاه في يومٍ يضِيعِنّ الافكار يومٍ على المخلوق ما اطول نهاره هذه صلاة تهجد ونفل يحرص الشاعر على أدائها فكيف بحرصه على الصلاة المفروضة؟ رغم ما نصم ذلك الجيل بالجهل إلا أنه على علم ويقين بأمور الدين حتى وإن جهل تفاصيلها، وابن حميد لا يغيب عن ذهنه ذكر الله والاستعانة به، يقول عندما تبدلت فنون الحياة ومضى كل إلى غايته: يا الله يا اللي ماش حال يكوده رب لطيف تصرّف الريح تصريف ان ترحم اللي وحدوا به جنوده أحدٍ صلح واحدٍ تحدَّر على السيف وقوله في قصيدة أخرى يقول: إن جت من الله ما عدواً يضرّا ومن دِبْرته قَلّت دبور المصاريف إلى قوله: يا رازق اللي في رجاك يتحرى من مد جودك يا وسيع المحاريف ما دون ربك واحداً لك يسرا للرب حكمٍ للمعاني وتصريف ثم ينتقل إلى الوصية: اخشع تواضع لا تكبَّر تزرّى ما شفت ميلات الليالي مراديف؟! اجهد بدينك واتّبع لا تغرى لو أمهلت لابد رحلة وتخفيف وقوله في وصية أخرى لابنه عبيد: يا عبيد قيّس ما على الروح ضُمَّان رزقك مع اجلك حط في طلح قرطاس ما خُطْ لك ما فات شوفاً بالاعيان وبعض الاوادم ما معه مَيْز وقياس لا حاسد يمنع ولا يرزق انسان الا بتدبير الصمد والي الناس ومن أبيات أخرى عن الدنيا: ما اظن فيها واحد داله البال واحفظ لدينك وانتبه عن خطرها تراه مثل الفَيْ لابد ينزال والشمس هي وايا القمر من فكرها الحق ينكر والتفاخر بالاموال لاهين في غفلاتهم في دْوَرْها هذه الدنيا والساعون في مناكبها لاهم لهم إلا جمع المال كما يرى الشاعر. ويختم أبياته بالدعاء أن يغفر الله ذنوبه: يا الله يا عالم خفيات الاحوال يا اللي ذنوب العبد لا شا غفرها طالبك انا الجنة وحسنى بالاعمال تَقْدر تفرِّجْها لياجا قدرها وعن المسؤولية التي يشعر بثقلها وجسامتها تجاه قبيلته وواجباته يقول مخاطبا أحدهم: تلعب طرب وانا بنومي هواجيس ما سامرك باللي كثر الهمومِ أسهر ليا نامت عيون الهداريس بالليل اساهر ساهرات النجومِ أونس بقلبي مثل صَلْي المحاميس الله يلوم اللي لمثلي يلومِ قالوا جهلت وقلت جهل بلا قيس الجاهل اللي ما يْعَرْف اليمومِ واليموم أو الأمام هو الطريق السوي. إلى قوله: البني ما يصلح على غير تأسيس ومن لا تعلم ما تسر العلومِ ثم يتحدث عن نفسه وحياته اليومية: بالليل اصالي حاميات المحاميس والصبح اصالي كل قبَّا وكومِ القبا هي الفرس إشارة إلى سرعتها وانطلاقها: أما كوم فيعني بها الابل المكتنزة شحماً ولحماً لا يعيقانها في السير والجيش، حياة ليلية في استقبال الضيوف والجيران وتقديم القهوة التي يحلو له صنعها أو الاقتراب من موقدها دليل على اهتمامه بضيوفه وجلاسه وهذا من كرم النفس وعلو الهمة. والقهوة معشوقة السمار ورمز الجود والكرم: ودلال فوق النار دايم محابيس إكرامهن حق علينا لزومِ من صنعة الصَبّة وخمس تخاميس برِّيَّةً تعمل بهن كل يومِ وبهاره عشر بليادنا فيس كيف يعدّى للنشامى القرومِ البرية هنا معناها أن البن لم يكن مستورداً عن طريق البحر حيث يتعرض للرطوبة والاختلاط ببهارات أخرى تخلف طعمه، وإنما يجلب من اليمن عن طريق البر، وهذه الأبيات علامة كرم. هذا هو إنسان الجزيرة العربية في فترة وُصمت بالجهل والفوضى والعداوات والبعد عن الدين. وإذا فكرنا في هذه الظاهرة لوجدنا أن الإنسان كما قيل: «ابن بيئة يؤثر فيها وتؤثر فيه»، والقائد بما يملك من ثروة ليس في حاجة إلى الغزو ولكن الغزاة هم جيش القبيلة الذي يدافع عنها، والغزو مصدر من مصادر إطعام فقراء القبيلة وتحسين وضعها الاقتصادي، وهم الذين يكرسون هيبة القبيلة، ويحافظون على كرامتها. أما الدين فكما لاحظنا من شيخ القبيلة محافظته على الدين ودعوته للتمسك به وبمكارم الاخلاق، ومهما كانت معرفتهم بتفاصيل التعاليم الدينية ضئيلة إلا أنهم متمسكون بالتوحيد والصلاة والزكاة والصوم والحج وأخلاق الإسلام. وابن حميد نموذج من رجالات ذلك الزمن الذين يغزون ويؤدون الصلاة أثناء المعارك ويدعون الله أن يصلح الأحوال، ومهما تبدو هذه الحالات متناقضة إلا أنهم مدفوعون لها غصباً. ولنسأل هل عَدِم الغزو اليوم؟ لا. بل أخذ أشكالاً أخرى نعرفها ولا نجرؤ على ذمها وقد يأتي من بعدنا فيحزن على حالنا. الوجه الآخر للفروسية والزعامة عند ابن حميد قد نتطرق إليه يوماً قادماً. والحمد لله على نعمة الأمن والاستقرار.