لا بد من الاتجاه إلى تصحيح سوق العقار كماً وكيفاً من خلال وضع أنظمة وضوابط تحمي الناس من الجشع وتعيد التوازن إلى منفذ من أهم منافذ الاستثمار من خلال الاستفادة من أساليب الدول المتقدمة في هذا المضمار ما يضمن حق كل من البائع والمشتري والمستأجر والمؤجر يعتبر التطور العمراني من أهم المقاييس التي يتم بموجبها تصنيف مدى تقدم الأمم، ولا أدل على ذلك من أن آثار العمران للأمم السابقة كانت وما زالت وسوف تظل لها اليد الطولى في تحديد مدى تحضر تلك الأمم وتحديد الفوارق بينها. واليوم يشهد العالم سباقاً محموماً ومنافسة حادة على إحراز قصب السبق وتحقيق الريادة العمرانية والمعمارية وذلك تحقيقاً وكسباً لرضا الجماهير العريضة من الشعب، وذلك من خلال توفير السكن المناسب حجماً وتصميماً وتكلفة وقدرة على البقاء والمقاومة، ناهيك عن المتطلبات البيئية والاجتماعية. من هذه المنطلقات أصبح الاستثمار في مجال العقار واحدا من أهم القنوات الاستثمارية التي يستطيع عامة الناس وخاصتهم الاستثمار فيها كلّ حسب استطاعته، ناهيك عن اجتذاب رؤوس الأموال الكبيرة للاستثمار في ذلك المجال ومفرداته بما في ذلك صناديق التمويل العقاري وشركات التطوير العقاري وغيرهما، خصوصاً عندما يصبح سوق العقار متوازناً ومنضبطاً وله قواعد وأسس تحكمه من المتلاعبين، وفي كل الأحوال فإن المستثمر يسعى دائماً إلى الموازنة بين الربحية وتقليص المخاطر. إن العقار «يمرض ولا يموت» كما يقول المثل، لذلك يعتبر من آمن القنوات الاستثمارية في كافة أنحاء العالم بسبب ثباته وديمومته، كما أنه أفضل مأوى أمام موجات التضخم المالي، خصوصاً إذا كان سوق العقار متوازناً وله جهات تراقبه وترعاه. لذلك يعتبر العقار من أهم المقومات الأساسية للثروة، لأنه في ظل الظروف المستقرة يحقق الربحية والأمان والنمو، إلا أن الاستثمار في المجال العقاري يحتاج إلى وعي وضبط وربط يمنع الاستغفال والاستغلال والجشع والخداع والتضليل والنصب والاحتيال، والتي يتمثل بعض منها في المساهمات العقارية الوهمية أو المتعثرة أو الخاسرة أو تخطيط الصحاري البعيدة جداً عن المدن، والترويج لها وبيعها بأكثر كثيراً مما تستحق، ناهيك عن بعض الغش في المباني والذي يعرف عند العامة بالبناء التجاري والذي له مظهر براق بينما يتم استخدام أقل المواد جودة ومواصفات في التنفيذ، ناهيك عن أن من قام بعملية التنفيذ عمالة سائبة مجلوبة من الشارع تتعلم الحرفة من خلال ممارسة الصواب والخطأ، وإذا وقعت الفأس في الرأس عند البيع أو الشراء فهل من منصف؟ وإذا نظرنا إلى سوق العقار المحلية بشمولية وتجرد نجد ما يلي: * أن أسعار العقارات أصبحت ملتهبة بصورة غير معقولة لم يسبق لها مثيل، وذلك لعدة أسباب يأتي في مقدمتها أن عدداً محدوداً من تجار العقار وغيرهم استحوذوا على مساحات كبيرة من الأراضي وبالتالي أصبحوا يتحكمون بالأسعار، فهم يخططون الأراضي البعيدة ويبيعونها بأغلى الأسعار، وذلك لجعل الأراضي التي يملكونها داخل المدن تتضاعف أسعارها، وهذا ما يسمى بالاحتكار.. أما السبب الثاني فهو عدم قناعة المضاربين والمحتكرين للعقارات بالربح القليل أو المتوسط، لذلك تجد أسعار الشقق والفلل الكبيرة والصغيرة ملتهبة لأن البائع لا يرضى بربح أقل من (40٪ - 50٪) وربما أكثر من ذلك وهذا يسمى استغلالاً. * أن ارتفاع أسعار العقارات أصبح من أكبر العوائق التي تقف حجر عثرة أمام الاستثمار العقاري في المملكة لعدة أسباب أيضاً يأتي في مقدمتها أن تلك الأسعار قد تجاوزت القدرة الشرائية أو التأجيرية للسواد الأعظم من الناس وربما هذا هو السبب وراء عدم تملك (65٪) من السكان المحتاجين للسكن مساكن خاصة بهم، ولهذا فإن الفجوة سوف تزداد اتساعاً مع استمرار ارتفاع أسعار العقار، لأن عدد السكان ينمو بوتيرة تصل إلى (2.5٪) سنوياً. وهذا سوف ينعكس على سن الزواج وبالتالي الإنجاب، وهذا سوف يطيل الفترة الزمنية اللازمة أو وصول المملكة إلى تعداد سكاني مناسب لمساحتها وامتداد حدودها وحراكها التنموي، والاستغناء عن كثير من العمالة الوافدة، ناهيك عن أن كثرة تعداد السكان تجعل للدولة هيبة أمام أعدائها الذين تعج بهم منطقة الشرق الأوسط بتحريض ممن يزعجهم ويقلقهم تقدم المملكة واستقرارها. هذا بالإضافة إلى أهمية العمل على توزيع السكان على أكبر مساحة ممكنة من المملكة وذلك من خلال تأهيل المناطق الاستراتيجية المناسبة لإنشاء مدن وقرى ومراكز فيها. * أن الارتفاع الحاد في أسعار العقارات ينذر بهبوط قادم لأن القاعدة الاقتصادية تقول إن دورة الأسعار في أي من القطاعات الاقتصادية والعقار تنص على «أن أي ارتفاع سوف يعقبه هبوط ولو بعد حين» ولذلك فإن الناس مندوبون للتريث وعدم المغامرة لأن أسعار العقار وصلت إلى نقطة الفقاعة التي توشك أن تنفجر وبالتالي لن يسلم منها إلا المتوازن الحصيف. * أن ارتفاع أسعار الأراضي ومواد البناء والأيدي العاملة هي المسؤولة عن ارتفاع أسعار الوحدات السكنية وارتفاع إيجاراتها ويعزز ذلك الطمع وعدم القناعة بالربح المعقول. * أن ارتفاع أسعار العقار هو المسؤول عن تورط عدد كبير من المواطنين بالديون المصحوبة بأرباح مركبة تمتد إلى عشرات السنين. إن أسلوب القروض البنكية يحتاج إلى وعي وفهم لبنود القرض لأن تلك القروض ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبله العذاب. * أن تكاليف البناء القائمة حالياً فيها كثير من المبالغة من حيث كميات الحديد وكميات الاسمنت وارتفاع الأسوار، والمبالغة بالأشكال الهندسية والجمالية حتى يخيل إلى الناظر أن الناس تبني دشماً حربية وليست مساكن، وكل ذلك ينعكس سلباً على التكلفة التي لا تقل عن مليون للفيلا الصغيرة بينما المتوسط العالمي لبناء الوحدة السكنية المتوسطة لا يتجاوز (250) ألف ريال، وذلك باستخدام مواد محلية بسيطة ومناسبة، وهذا الأمر يدعونا إلى القيام بدراسات علمية تطبيقية تؤسس لأسلوب جديد في بناء المساكن الاقتصادية، والحث على استخدام مواد محلية منخفضة التكلفة حتى لو دعا الأمر إلى إعادة العمل باستخدام الطين لبناء البيوت بعد إدخال بعض اللمسات التطويرية عليه. فهو من البيئة ولها. وهذا كله سوف ينعكس إيجاباً على برامج الاسكان في المملكة وقدرتها التوسعية والاستيعابية. * أن ارتفاع أسعار الأراضي من أكبر العوائق التي تقف حجر عثرة أمام كثير من المشاريع التعليمية والصحية والاسكانية وغيرها. ولعل تأخر وزارة الاسكان في إنجاز أمر الملك عبدالله حفظه الله ببناء (500) ألف وحدة سكنية بتكلفة (250) مليار ريال ناتج عن عدم توفر أراض حكومية كافية، بالإضافة إلى أن عملية شراء الأراضي حسب الأسعار القائمة مكلف جداً إلى درجة أنه يستحيل تنفيذ المشروع بالمبلغ المرصود، ناهيك عن ارتفاع أسعار مواد البناء لأنها مستوردة وتباع بأسعار مبالغ فيها. * أن ارتفاع أسعار الأراضي وارتفاع تكلفة البناء وراء اتجاه كثير من المؤسسات الحكومية والخاصة لاستئجار مبان لبعض مقراتها بأسعار خيالية ما ينعكس على سوق العقار لأن كل صاحب عقار يرغب في تحقيق نفس المعدل من الإيجار والتأجير لطرف واحد مضمون وهذا يترتب عليه تجميد عدد كبير من المنشآت السكنية والمكتبية وعدم تأجيرها انتظاراً للفرج والفرص المواتية. وهذا يعني وجود وتوفر عدد كبير من الوحدات السكنية غير المؤجرة أو غير المباعة لأن أصحابها حددوا لها أسعاراً معينة للبيع أو التأجير ما يقلل كمية المعروض وبالتالي ارتفاع الأسعار. * لعل من أسباب ارتفاع أسعار العقارات أيضاً بيعاً أو تأجيراً الأسلوب الجديد في البيع، وهو بيع العقار على أساس قيمة إيجاره وليس على أساس تكلفته مضافاً إليها الربح ولهذا فإن المغالاة في الإيجارات تبدو واضحة لكل ذي نظر وبصيرة فعلى سبيل المثال لو قام أحدهم ببناء عمارة على مساحة (1000)م2 (21 شقة) حسب تكلفة الأرض وتكاليف البناء القائمة حالياً فإنها سوف تكلفه ما بين (4.5 - 5) ملايين ريال حسب نوع التشطيب. ثم يقوم بتأجيرها بما يتراوح بين (750 - 850) ألف ريال ويعرضها للبيع بمبلغ يتراوح بين (9 - 10) ملايين ريال وبذلك يحقق ربحاً قدره (100٪)، ناهيك عن احتمال استفادته من الإيجار لمدة سنة أو سنتين، وهذا الأسلوب فيه كثير من الغبن على عامة الناس لأنه يشعل الأسعار، ويلحق الضرر بسوق العقار، فالمنطق أن يتم البيع على حسب التكلفة مضافاً إليها الربح المعقول. من هذه المنطلقات والممارسات لا بد من الاتجاه إلى تصحيح سوق العقار كماً وكيفاً من خلال وضع أنظمة وضوابط تحمي الناس من الجشع وتعيد التوازن إلى منفذ من أهم منافذ الاستثمار من خلال الاستفادة من أساليب الدول المتقدمة في هذا المضمار ما يضمن حق كل من البائع والمشتري والمستأجر والمؤجر. إن توازن سوق العقار سوف ينعكس إيجاباً على المواطن والمستثمر والدولة ككل بجميع فعالياتها وحراكها التنموي، ناهيك عن كسب رضا الناس وانفراج كربة من لا يملك سكناً ويرهقه إيجاره، خصوصاً أن دولتنا الفتية بقيادة خادم الحرمين الشريفين ومؤازرة ولي عهده الأمين، وسمو النائب الثاني-حفظهم الله-لا يألون جهداًفي سبيل تحقيق المصلحة العامة، والاستجابة إلى كل فكر نيّر وشفاف ومصحوب بوجهة نظر مفيدة وطرح موضوعي.. والله المستعان..