وقف البشر حيارى أمام الذاكرة !! الذاكرة آخر الأمر توأم للخيال، وهي التي تستحضر كل الأزمنة في تجل واحد، وتستنطقها صورا، وخيالا!! والماضي كما نعرفه، أجل الأزمنة لأن الحاضر والمستقبل يذهبان إليه كما تصور بورخيس، كما انه يمثل قدرتنا على العيش عبره في كل الأوقات، وهو الزمن الوحيد الذي يخلصنا من نير الحاضر، وبؤسه!! المخرج الأمريكي "وودي آلن" في تحفته السينمائية" "منتصف الليل في باريس" حاول عبر مشاهد فيلمه أن تعيش كل الأزمنة في زمن واحد، تتواتر أحداثها في مشاهد... هل كانت الأحلام ؟.. أم الرغبة في المكوث هناك ؟ ..أم هو الهروب من محنة الواقع ؟ "وودي آلن" مخرج وممثل وكاتب وسيناريست وعازف جاز...وأحد المخرجين الأمريكيين الذين شاركوا في حداثة السينما الأمريكية، بتعميق أفلامه لأنها تمتلك أسئلة فكرية تطرحها على عصر أمريكي ملتبس..، وتعبر عن الحلم الأمريكي وتقوم بنقد هذا الحلم، والكشف عن مثالبه، عبر نقد مؤسسه مسيطرة، راسخة بأجهزتها السلطوية. كما يهتم "آلن" بالأدب، وتفتنه مواضيع العلاقة بين الرجل والمرأة في مجتمع مادي، موضوعاته ذات أفق فلسفي تهتم بأسئلة الوجود، كما يهتم بإبراز جذوره اليهودية في وطن يزدحم بالأقليات والهويات، وتمثل المدينة عنده مرآة لمن يعيشون فيها.. رشح له21 فيلما لجائزة الأوسكار، ونال الجائزة 3 مرات. يختلف فيلمه الأخير"منتصف الليل في باريس" عن كل أفلامه السابقة، في هذا الفيلم ركب آلة الزمن وذهب يبحث عن أزمانه هو!! تلك الأزمان المتوجة بالفنون والآداب والموسيقي، مقدما أشخاصها الذين مضوا مغادرين الحياة، وكانوا في وقتهم نجوما قادرة على الإبداع، وابتكار الجمال. ينفتح المشهد ونحن نصغي لعزف جميل لموسيقي تنبع من الشاشة التي تضاء على مشهد عام متنقل لمدينة باريس.. السين..عمائر الباروك.. قصور تكمن هناك على الشاطئ.. حدائق كأنها منحوتات لرودان.. مقاهي الرصيف.. معابر ونافورات والمبنى العريق لدار الأوبرا..تماثيل تحت زخات المطر..ويأتي الصوت من خارج الكادر بمقولة "ايرنست هيمجنواي" "باريس حفلة" وتتابع المشاهد... "جيل بندر" كاتب أمريكي، هجر السيناريو، وأنجز روايته الأولى، يصطحب خطيبته ووالدها وأمها في رحلة إلى باريس التي يعشقها. ثمة تناقض واضح بين "جيل" وخطيبته الغنية، البرجوازية، الأمريكية حتى العظم..ضحالة في الثقافة، بحث عن متع الجسد.. الاهتمام بالتافه من الأمور، سخريتها اللاذعة من "جيل" الحالم، العاشق لماضي المدينة وناسها، هؤلاء الذين رحلوا بعد أن توجوها بالفن والجمال يهمس "جيل" لنفسه "الحنين للماضي نكران للحاضر الشاق" يغادر "جيل" عشاء البورجوازية، ويغوص في قلب المدينة باحثا عن عراقتها، حيث يمضي في الأزقة القديمة ببلاطاتها النظيفة.. يراقب محلات التحف، على الجانبين، وأضواء الفوانيس ترنو خلال ضباب شاحب مثل الأحلام.. يضل طريقه، فيجلس على الرصيف.. تدق الساعة منتصف الليل فينظر بعيدا، فيرى سيارة قادمة موديل أول القرن العشرين.. تقف السيارة تجاهه، وهرج ومرج وأصوات ضاجة تنطلق من داخلها تدعوه للركوب.. يركب "جيل" وتمضي السيارة.. بشر كأنهم انتزعوا من زمن العشرينات.. ستراتهم.. قصات شعورهم.. سحناتهم..كأن "جيل" يعرفهم.. كأنهم غادروا ذاكرته.. يهبطون ويدخلون ملهى شديد الغرابة.. صوت موسيقي وغناء من ذلك الزمن.. الديكورات من نفس الوقت.. يختلط الزمن على "جيل" أين هو.. من هؤلاء ؟.. كأنني رأيتهم.. ربما في الصور.. وكلما انتبه يقينه غزت روحه مشاعر أن، هؤلاء قد ماتوا من عشرات السنين!! . اقترب الذي كان يركب معه السيارة، وبصحبته السيدة التي كانت برفقته وعرف نفسه لجيل: أنا سكوت فيتزجيرالد وهذه زوجتي زيلدا.. اندهش "جيل" واستدرك: تعني أن اسميكما على اسمي الكاتبين الشهيرين؟ لم يفهما ما يقوله، واخبراه إنهما في حفل على شرف الكاتب الفرنسي "جان كوكتو". داخ "جيل" وغرق في بحر الحيرة.. همس لنفسه: تماسك.. ما يحدث فوق الاحتمال.. سحبه فيتزجيرالد لمكان آخر.. وحين دخل معهم من الباب عرفه على احدهم، ذلك الجالس يتناول شرابه: هيمنجواي.. كاد "جيل" يغمى عليه باعتباره احد عشاق الكاتب الكبير.. قدم "جيل" نفسه لهيمنجواي بأنه روائي، واثنى على كتاب هيمنجواي الذي أكد له "كان كتابا جيدا عن الحرب وعن الشجاعة، لك الشرف أن تموت شجاعا "وسأل جيل" "عما يكتب" فأخبره "انه يكتب رواية عن رجل يعيش في مخزن غلال" وطلب من هيمنجواي أن يقراها.. يرفض هيمنجواي ويأخذ الرواية ليعطيها "لجرترود ستاين" قائلا "هي الأصدق والأشجع". ينبهر "جيل" بما يرى، ويصاب بشيء مثل الحمى، وعند "ستاين" يلتقي بيكاسو والفتاة "أدريان" موديل الرسام العظيم وعشيقة ثلاثة معه من العباقرة.. بيكاسو.. موديلياني.. هيمنجواي.. يغرق في عشقها وينسى خطيبته المتيمة في عشق آخر، ويمضي معها في شوارع باريس القديمة، أكثر الأماكن تواصلا في العالم..يخوضان في الزمن فيقابل "جيل" على مقهى، سلفادور دالي يرسم وحيد القرن، وبونويل المخرج.. ثم يرى هووادريان عربة بجوادين كأنها قادمة من زمن آخر، فيدخلان إلى مشرب قديم، وهناك يعثران على تولوز لوتريك جالساً يرسم، ثم يحضر جوجان وديجا، ويتناقشان حول الأزمنة.. تعرف أدريان أن جيل له خطيبة فتزهده، وتغادره إلى زمن جوجان وديجا ولوتريك الذي تعشقه. يعزف "وودي آلن" على آلة الحنين إلى الماضي. يتولد الشغف بما فات، حيث كان الجمال والفن ورائحة الأيام الطيبة، فيما ينتبه "جيل" لما هو فيه فيعود ليصغي لصوت حاضره القبيح!!.