من أهم الكلمات التي ترددت على ألسنة السياسيين والمسيحيين وغير المسيحيين في العالم بعد أن بلغهم نبأ قرار بابا الكنسية الكاثوليكية التنحي عن منصبه في الثامن والعشرين من شهر فبراير الجاري عبارات "الشجاعة" و"الحكمة" و"الاحترام". وغالبية الذين وصفوا موقف البابا الحالي بأنه موقف شجاع وحكيم ويدعو للاحترام عبروا عن آرائهم وفي أذهانهم صور كثيرة لبابا الكنسية الكاثوليكية السابق يوحنا بولس الثاني الذي كان يتألم كثيرا خلال إشرافه على القداديس أو عند استقبال هذه الشخصية أو تلك أو خلال أسفاره الكثيرة إلى بلدان العالم المسيحية وغير المسيحية بسبب استفحال مرضه. فقد ولد البابا يوم السادس عشر من شهر أبريل عام 1927 في بلدة صغيرة بمقاطعة بافاريا الألمانية القريبة من الحدود النمساوية في أسرة متواضعة. وكان اسمه آنذاك جوزيف راتزنجر. وكان والده ضد الحركة النازية. ولكنه اضطر على غرار كل الشبان في سنه إلى الانخراط في حركة "شباب هتلر" لأن السياق السياسي في ذلك الوقت كان يفرض هذه العملية. وثمة شبه إجماع اليوم لدى دارسي مسار بابا الكنسية الكاثوليكية على أن شغفه بالفلسفة والعقيدة واللاهوت وبإجراء بحوث بشأنها وتدريسها في الكنسية والجامعات ونجاحه الباهر في هاتين المهمتين أمر ساعده كثيرا على تقلد مناصب متدرجة في الكنسية بدءا من تعيينه كاهنا عام 1951 ومرورا بتعيينه كردينالا عام 1977 ووصولا إلى تعيينه خلفا ليوحنا بولس السادس في أبريل 2005 على رأس الكنسية الكاثوليكية. (دروس كثيرة) وكانت ردود الفعل التي أثارتها محاضرته في ديسمبر عام 2006 في ألمانيا حول الإيمان والعقل في العالم الإسلامي سببا أساسيا من أسباب انخراط بابا الكنسية الكاثوليكية في منهجية براغماتية. فقد اتهم البابا في تلك المحاضرة الإسلام بعدم الاحتكام إلى العقل وباستخدام العنف كوسيلة للانتشار وللتعامل مع الآخرين . وأمام موجة الاستنكار العالمية التي أثارها هذا الموقف حتى داخل الكنسية الكاثوليكية اضطر إلى مراجعة موقفه من هذه المسألة وأصبح فعلا واعيا أكثر فأكثر لأهمية الحوار بين الديانات والثقافات. وفي هذا الإطار يندرج اللقاء التاريخي بينه وبين خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز في مقر الفاتيكان في شهر نوفمبر 2007. وثمة اليوم قناعة لدى من يعرفون البابا بنديكتوس السادس عشر بأن من بين النصائح التي سيقدمها إلى خلفه واحدة تدعو للاهتمام بشكل خاص بهذا الحوار والحرص على تعزيز كل خطوة تهدف إلى تعزيزه وتفعيله على أرض الواقع. ويخلص هؤلاء إلى القول إن اللقاء بين خادم الحرمين والبابا كان لبنة أساسية من لبنات انخراط بنديكتوس السادس عشر في المنهجية البراغماتية التي اعتمدها هذا الأخير للتعامل مع العالم من منصبه على رأس الكنسية الكاثوليكية.