في بواكير عام 1373ه كان القدر على موعد في ترتيب لقاء ود ومحبة بين رجلين أتيا من مكانين مختلفين من بطن نجد.. الأول قدم من منطقة «العرض» من بلدة «القويعية» والآخر جاء من سفح جبل طويق الكائن في بلدة «الزلفي» وعلى الرغم من بعد المسافة وعدم المعرفة السابقة لأي منهما إلا أن القواسم المشتركة ومعاصرتهما لظروف ذلك الزمن الذي اتصف بشظف العيش وقلة الموارد جعلت من هذين الرجلين وغيرهما من أبناء نجد يتسابقون على مواطن الرزق حيث ما وجد. فبعضهم فكر بالذهاب إلى الرياض لطرق أبواب الرزق وبعض الآخر عقد العزم على قطع آلاف الكيلومترات على ظهور الإبل في الغالب الأعم قاصدين بلاد الشام أو منطقة الكويت للبحث عن عمل والكسب الشريف إلا أن هناك قلة من هؤلاء من فكر بالذهاب إلى الظهران على الساحل الشرقي للعمل في شركة أرامكو أول شركة سعودية أمريكية للتنقيب عن النفط وإحدى لبنات صرح الاقتصاد الوطني، فعندما علم الناس بوجود شركة تقدم رواتب ومزايا لعمالها ووصل هذا الخبر لهذين الرجلين اللذين شعرا منذ نعومة أظفارهما بالمسؤوليات المبكرة والتطلع نحو الأفضل وإن الانخراط بهذه الشركة سبيل في النجاح بالحياة بعد توفيق الله. من هنا بدأت الرحلة.. رحلة والدي العزيز الذي جاء من الزلفي والشيخ عبدالرحمن بن سليمان المسهر أحد أعيان محافظة القويعية الذي وافاه الأجل يوم الجمعة 24/5/1426ه، وهو ذلك اليوم نفسه الذي بدأ القدر ينسج خيوطه لصحبة الرجلين لفترة امتدت لأكثر من نصف قرن، حيث كان اللقاء الأول في مسجد لصلاة الجمعة في رأس تنورة وهو ما يعبر عن حسن الطالع وجمال المكان وأساس طبيعة التعارف.. فاللقاء كان في بيت من بيوت الله والفراق عندما سجي جسده والصلاة عليه في مسجد عتيقة بمدينة الرياض ووري التراب في مقبرة الجنوب حيث توالى المشيعون من كل حدب وصوب للمشاركة في الوداع الأخير لهذا الرجل الذي ترجل من ظهر هذه الدنيا الفانية وانتقل إلى دار القرار بجوار أرحم الراحمين الذي رحمته وسعت كل شيء.. في هذه الأثناء رجعت إلى والدي العزيز ذكرياته إلى أكثر من خمسين عاماً وتوالت إلى ذاكرته مشاهد عديدة.. فالمشهد الأول هو التساؤل حول كيف فعل القدر بهما من الانتقال من بلدين كانا بمقياس ذالك الزمان بعيدين عن الظهران وكيف إن همة الرجال استطاعت تحمل معاناة الغربة والتكيف مع بيئة عمل جديدة بالشركة فشكل المباني المعدات واختلاف نمط العيش والتعامل اليومي مع اللغة الإنجليزية والالتزام بالنظام والحضور والانصراف فأسلوب الحياة والعراك مع الوسائل الحديثة، أثرت بشكل مباشر على نفسيهما ووجعلتهما يعقدان العزم على المضيء قدماً في استيعاب كل الأشياء في مدة وجيزة الأمر الذي ساعد على انتهاء مهمتهما في مدة قصيرة الاكتفاء بما تعلماه استعداداً للرجوع للرياض وتبني عمل خاص لكل منها. فوالدي افتتح ورشة لإصلاح السيارات التي توسعت فيما بعد لتصبح أشهر الورش في المنطقة الصناعية، كما أسس الشيخ المسعد شركة كبيرة في قطاع الطرق مع اخوته الكرام لتنطلق مرحلة تأسيس جديدة في حياتهما في تناغم عجيب، ذلك التناغم الذي يمنع التواصل الاخوي بين الرجلين وانشغالاتهما الخاصة التي لم تزدها الأيام إلا رسوخاً وثباتاً، وقد تمكن الوالد من معرفة دور هذا الرجل في المساهمة لتنمية محافظة القويعية من خلال زياراته المتكررة لها، فمن النادر أن لا تجد حضوراً للشيخ عبدالرحمن المكنى (بأبي رشيد) حيث عرف بكرمه تجاه هذه المحافظة وبذله المنقطع النظير لكل موقف إنساني حتى أصبحت بصماته جلية يعرفها القاصي والداني من أبناء منطقة مترجماً بذالك معنى المواطنة الحقيقية تجاه القويعية ضارباً أروع الأمثلة في الوفاء لهذه الأرض وأهلها محتلة بذلك جزء من وقته وتفكيره حتى أنها لامست شغاف قلبه وهكذا الرجال.. بلادا بها نيطت على تمائم وأول أرض مس جلدي ترابها ثم تستمر الذكريات تترى في ذهن والدي يوم التقى بذلك الشاب الذي يتقد ذكاء وحيوية وهو يروي له السنوات التي قضاها بالقويعية في فلاحة أرض آبائه وأجداده من عرقه، وكيف ان هذا العرق أروى همته للتطلع نحو الأفضل، وكيف أن هذا الشاب بفكره البسيط استطاع أن يتفوق على أقرانه بالشركة لدرجة أنه حظي بمكانة خاصة لدى الفنيين من الطاقم الأمريكي لدهشتهم من نبوغه المبكر. إن الحديث عن هذا الرجل يطول لكن أراد الوالد أن يختم حديثه معي بقصيدة تعبر عن حجم حبه لأهالي محافظة القويعية بقصيدة قالها الوالد أثناء زيارة معالي وزير الزراعة السابق د. عبدالرحمن آل الشيخ واصفاً بلدة القويعية وما خرج منها من رجال بالنبل والكرم، حيث كان أبو رشيد في مقدمتهم قائلاً: الله يديم أفراحكم يأهل العرض عسى لياليكم ليالي سعيدة ياأهل الكرم ياأهل المروات في الأرض الشاهد الله ثم تشهد عبيده اكرامكم للضيف واجد كما الفرض وراثة ماهيب عادة جديدة وراثة بين السلف للخلق قرض ومن مات يظهر من عياله حفيده في نهاية الحديث التفت علي والدي وعيناه مغرورقتان بالدموع قائلاً ما قاله محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام في ابنه إبراهيم مردفاً القول بصوت كله حجرشة وآلم وحزن.. إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإن على فراقك يا أبا رشيد لمحزونون.