الذهب يتجه نحو أفضل أسبوع في عام مع تصاعد الصراع الروسي الأوكراني    المنتخب السعودي من دون لاعبو الهلال في بطولة الكونكاكاف    "الجمارك" في منفذ الحديثة تحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة "كبتاجون    خطيب المسجد الحرام: ما نجده في وسائل التواصل الاجتماعي مِمَّا يُفسد العلاقات ويقطع حِبَال الوُدِّ    استنهاض العزم والايجابية    الملافظ سعد والسعادة كرم    المصارعة والسياسة: من الحلبة إلى المنابر    فرصة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    لبنان يغرق في «الحفرة».. والدمار بمليارات الدولارات    حلف الأطلسي: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «آثارنا حضارة تدلّ علينا»    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    «السقوط المفاجئ»    أرصدة مشبوهة !    التدمير الممنهج مازال مستمراً.. وصدور مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    إطلالة على الزمن القديم    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    فعل لا رد فعل    ترمب المنتصر الكبير    صرخة طفلة    «إِلْهِي الكلب بعظمة»!    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    المؤتمر للتوائم الملتصقة    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    الأمن العام يشارك ضمن معرض وزارة الداخلية احتفاءً باليوم العالمي للطفل    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    مدير عام فرع وزارة الصحة بجازان يستقبل مدير مستشفى القوات المسلحة بالمنطقة    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    «المرور»: الجوال يتصدّر مسببات الحوادث بالمدينة    استضافة 25 معتمراً ماليزياً في المدينة.. وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة    «المسيار» والوجبات السريعة    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    أفراح آل الطلاقي وآل بخيت    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



انتظام العلماء التلقائي يجعلهم يقاومون التغيير تلقائياً
نشر في الرياض يوم 16 - 01 - 2011

إن هذه بعض الأمثلة التي تؤكد أنه حتى كبار العلماء الذين كانوا رواداً إذا تجاوزوا مرحلة الريادة واستقروا على النتائج التي سعوا إليها وانتظموا في التيار السائد فإنهم بذلك يعودون إلى طبيعتهم التلقائية
إن تلقائية النظام الإنساني في أي اتجاه يستقر عليه ورفضه التلقائي لما يغايره هي تلقائية عامة ومستحكمة لا تستثني أحداً، فإذا كان من البديهي أن يكون عامة المتعلمين منتظمين تلقائياً ضمن إطار الانتظام السائد إلا أن التلقائية البشرية لا تقف عند هذا الحد بل حتى الذين كانوا روَّاداً من كبار العلماء أو كبار المخترعين حين يُستجاب لهم ينتظمون في الوضع الجديد الذي دعوا إليه ثم يقاومون ما يطرأ عليه من محاولات تطويرية، إن تلقائية الإنسان تجعله دائماً يميل إلى الانتظام التلقائي، وإذا مرت به فترة ريادية يقاوم بها السائد كما هي حال الرواد النادرين، فإن الفرد الرائد إذا انتظم على ما كان يُعتبر تطويراً للسائد وخروجاً على المألوف فإنه في النهاية ينتظم في الاتجاه الذي سعى إليه فلا يقبل كسره أو ثلمه أو الخروج عليه أو الإتيان بما يخالفه، ويحصل هذا الالتزام تلقائياً ضمن توجّه يصير بعد قبوله عامَّا ومستقراً، إن طبيعة الإنسان التلقائية تجعله ملتزماً تلقائياً بمسار محدد للتعامل مع الواقع، وهذا شيء تقتضيه تلقائيته كما يقتضيه واجب الإنجاز، لإن الإنسان لا يكون منتجاً ومنجزاً إلا إذا كان منتظما في الأداء وواثقاً بما يعمل ومقتنعاً بما يعلم وينساب منه ذلك كله انسياباً تلقائياً، وهذا يعني الكثير من الثبات والاستقرار والانتظام والتلقائية..
إن الانتظام يحصل تلقائياً استجابة لطبيعة الإنسان التلقائية وتكثيفاً تلقائياً مع متطلبات الحياة اليومية، إنه التبرمج التلقائي الذي يصوغه التكرار وتنبني به العادة التي بها يتحقق الانتظام ويسهل بها الأداء، فالأداء يستوجب توفر المعرفة الممتزجة في النفس كما يستدعي بشكل أشد وألزم جاهزية المهارة التي اكتنز بها الفرد وكلاهما لا يكتسب إلا بالممارسة المنتظمة والرغبة الحميمة والتدريب الدقيق، فالإنتاج في الغالب يقوم على التكرار الذي يغرس التعود فتتدفق منه المهارة أو تنساب انسياباً تلقائياً بما يتفق مع درجة التشبع، فالمهارات تتكون بمقدار التكرار الحميم والرغبة الجياشة، إن الإنسان لا يستطيع أن يتقن أي عمل إلا إذا اعتاد عليه اعتياداً كافياً يصير به الأداء تلقائياً، وهذا لا يتحقق إلا بالممارسة المنتظمة والتكرار الطويل، فالأداء لا بد أن يأتي انسياباً أو تدفقاً يفيض فيضاناً مما جرت تعبئة الذات به ويكون ذلك بمقدار درجة الامتلاء، فليست المهارات الفائقة المكتسبة سوى اعتياد عميق وانتظام راسخ، وبهذا الانتظام التلقائي والالتزام فإن الإنسان حتى لو كان من كبار العلماء، فإنه يقاوم التغيير تلقائياً، وكلما أوغل في الاتجاه تعمق انتظامه واشتد اعتياده وصعب عليه تغيير مساره أو قبول الخروج عنه..
إن تاريخ العلم مليء بمواقف العلماء الكبار الذين قاوموا التغيير مقاومة شرسة ومستمرة بعد أن كانوا في الأصل روادا مبدعين ومكتشفين باهرين، إن كون الفرد كان رائداً في فترة من فترات حياته لا يعني أنه يتقبل التغيير بسهولة ولا أنه يستجيب للريادات اللاحقة المغايرة بأريحية، وإنما يزخر تاريخ العلم بما يؤكد تلقائية رفض التغيير حتى عند من كانوا في سباق حياتهم رواداً، وعلى سبيل المثال فإن العالم البريطاني الكبير (وليم طومسون) يقول عنه مؤرخو العلم: «كان علامة بارزة في مجال العلوم، فقد نال جميع الأوسمة المعروفة في وقته.. نال رتبة فارس ولَقَبَ النبيل وكان أول من حصل على وسام الاستحقاق وكان رئيساً للجمعية العلمية الملكية البريطانية ومنح عشرات من الميداليات وشهادات التقدير واحتفل به أستاذاً في جامعة (جلاسجو) وهو في الثانية والعشرين من عمره واحتفل عام 1896م مجموعة لم يسبق لها مثيل من الشخصيات البارزة بيوبيل تنصيبه» لقد ابتكر المقياس المعروف باسمه (مقياس كلفن) كما كانت له إسهامات مهمة في مجال تمدد الغازات وتبريدها وترتبت عليها نتائج مهمة علمية وعملية وله اختراعات مهمة منها الجلفانوفر ذو المرآة، وحين مُنح لقب فارس (سير) تم تبرير ذلك بأنه حقق اكتشافات وإنجازات ثورية وتلقى الكثير من الثناء والتبجيل ويقول عنه مؤرخو العلم: «كان له كثير من الفضل في تنشيط التقدم العلمي والرقي الصناعي وتوصل إلى نظريات مهمة مثل نظرية المغناطيسية الكهربائية والديناميكا الحرارية وعلم الفيزياء الأرضية كما كان له تأثير عميق في تطور علم الهندسة الكهربائية والرياضيات التطبيقية والملاحة». إن هذا بعض ما يقال عنه اعترافاً بمكانته العلمية الشامخة لكن هذا العالم العظيم رغم عظمته كان يرى أن محاولة اختراع طائرة ليست أكثر من خيال واهم يستحيل تحقيقه وكان يسخر من جهود الأخوين رايت اللذين أصرا على مواصلة العمل رغم تأكيدات واطسون المثبطة، ونجحا في اختراع أول طائرة وهذا دليل على تلقائية الإنسان، وأنه مهما كان عظيماً إذا تبرمج برؤية وصار له موقف فإن البرمجة تسيطر عليه، إنه مثال على الأخطاء الفادحة التي تنتج عن الرأي المسبق الواثق، فالعلماء إذا طال انتظامهم في أي اتجاه فإنهم يستنيمون له وينتظمون فيه تلقائياً فيصعب عليهم أن يشكوا فيه أو أن يضعوه موضع المساءلة وإعادة التقييم.
ومن الأخطاء الكبرى التي ارتكبها أيضاً اللورد كلفن (واطسون) أنه أعلن عام 1900م في مؤتمر علمي: «أن مهمة علم الفيزياء قد انتهت فلا يوجد شيء جديد يمكن للفيزياء اكتشافه»!!! كما أنه كان يصر على أنه من المحال إقامة علوم في غير مجال الفيزياء، وقد أثبتت النجاحات العظيمة للعلوم الإنسانية والاجتماعية فيما بعد تكذيب هذا الوثوق الأعمى المعيق ويأتي أيضاً ضمن مواقفه العمياء الواثقة تأكيده القاطع بعدم أهمية الراديو وأنه ليس له أي مستقبل ثم ها هو الإعلام الإذاعي والفضائي بشتى وسائله يصبح الأكثر حضوراً في الحياة الإنسانية المعاصرة والأشد تأثيراً، وكذلك نفيه لأهمية أشعة إكس وهي التي صارت متنوعة الاستخدام وعظيمة النفع.
إن هذه بعض الأمثلة التي تؤكد أنه حتى كبار العلماء الذين كانوا رواداً إذا تجاوزوا مرحلة الريادة واستقروا على النتائج التي سعوا إليها وانتظموا في التيار السائد فإنهم بذلك يعودون إلى طبيعتهم التلقائية في الانتظام التلقائي فيقاومون أية أفكار جديدة تتعارض مع ما انتظموا فيه واستقروا عليه، وما أكثر ما أدت مواقف الكبار المنتظمين إلى إيصاد مجالات التطوير الحضاري وإعاقة الأفكار الريادية وإبقاء التخلف سائداً وليس أوضح من مجال الطيران الذي صار من أعظم وسائل الحياة المعاصرة ولكن تلقائية اللورد كلفن كانت تستدرجه تلقائياً لكي يجزم بالاستحالة!!! غير أن الرواد المقتحمين من أمثال الأخوين رايت لا تثنيهم المعوقات، فقد أصر الأخوان رايت على مواصلة العمل الطويل الممض حتى تحقق لهما النجاح الباهر الذي جنت الإنسانية ثماره المدهشة..
ولكن هذه الأخطاء الجسيمة من هذا العالم العظيم رغم ضررها الكبير لم تُسقطه بل لم تؤثر في مكانته ولم تقلل من قيمته ولم تحجب شيئاً من إسهاماته، فالخطأ هو الأصل فإذا أخطأ أي إنسان مهما علت مكانته فإن ذلك لا يحط من قدره وفي هذا درس عظيم بأن نحترم الرواد والمبدعين حتى لو أخطأوا وبالمقابل فإن في ذلك درساً عظيماً أيضاً بأن لا نبقى مأسورين لرأي فرد أو عمله أو مواقفه مهما بلغت عظمته فالخطأ يتربص بنا نحن البشر جميعاً بشكل تلقائي ما لم نأخذ حذرنا منه ونحتاط منه ونعيد الفحص والتحليل والتحقق لأي شيء نريد اعتماده، فالعظماء يخطئون لأنهم من البشر كما أنهم أيضاًيقاومون التصحيح إذا انتظموا في اتجاه واستسلموا لوضع سائد، ولكنهم في حالات استثنائية نادرة يحققون الروائع إذا استنفروا قابلياتهم الكامنة وخرجوا من أسر التلقائية المنتظمة البليدة، فالخطأ يجب أن يكون متوقعاً من أي إنسان، فإذا أخطأ لم يقدح ذلك فيه غير أننا يجب أن نبقى حذرين من كل المواقف وأن لا نلغي عقولنا لمجرد أن القائل عظيم أو عبقري أو أنه ثقة في نظر الجميع، فتقديس الأشخاص كان وما زال من أكبر العوائق التي اعترضت مسيرة الحضارة الإنسانية..
إن التاريخ الإنساني يقدم شواهد لا حصر لها على أنه يندر من الرواد من لم يتعرض للرفض العنيد الممض، إن التاريخ الإنساني يؤيد تمام التأييد ما قاله العالم الشهير ماكس بلانك الذي أكد بمرارة وألم أنه: «من النادر أن يشق أي ابتكار علمي مهم طريقه عن طريق الفوز التدريجي على المعارضين له وتحويلهم إلى صالحه، فما يحدث بالفعل هو أن المعارضين لأي ابتكار يهلكون وبعد ذلك تعتاد الأجيال الجديدة على أفكار هذا الابتكار العلمي منذ البداية»، إن هذا النص العميق المعبر عن معاناة الرواد قد كتبه رائد علمي باهر، إنه واحد من أبرز رواد العلم، فهذا النص عظيم القيمة لأنه يبرز في مجال التطوير الثقافي والحضاري عدداً من الظواهر البشرية ومنها:
* إن العلماء المنتظمين في أي اتجاه علمي مستقر يعارضون الأفكار الجديدة تلقائياً، فهم في الغالب لا يضعونها موضع الاختبار والتحقق، وإنما يرفضونها تلقائياً برأي مسبق انطلاقاً من موقف مستقر..
* أما الظاهرة البشرية الثانية التي يؤكدها تاريخ العلم وأكدها ماكس بلانك فهي أن العلماء المنتظمين في أي وضع علمي مستقر لا يتراجعون عن تلقائية الرفض مهما تعاضدت البراهين، فالأفكار الجديدة لا تجد اهتماماً ولا إصغاء ولا قبولاً إلا بموتهم ومجيء جيل جديد لم يتشكل علمياً بعد، فتصير الأذهان مفتوحة لسماع التطور الجديد والإصغاء إليه والاقتناع به والاستعداد التلقائي للانتظام فيه وبذلك يسود انتظام جديد ويصبح تطويره يتطلب أيضاً هلاك المنتظمين المتكلسين والتوجه إلى الجيل الجديد الذي ما زال في مرحلة الشكل العلمي وهكذا دواليك، فالانتظام التلقائي هو الأصل، أما قبول التغير فيتطلب مجيء جيل جديد منفتح، إن تاريخ العلوم والفنون والآداب يؤكد هذه الظاهرة البشرية تأكيداً يفوق الكفاية..
إن نص ماكس بلانك يتفق من حيث المضمون مع نص أقدم للفيلسوف الألماني شوبنهاور الذي أكد أن: «كل حقيقة تمر بثلاث مراحل: أولاً: تكون موضع سخرية.. ثانياً: تتم معارضتها بعنف.. وفي النهاية يتم تقبلها على أنها حقيقة واضحة لا تحتاج إلى دليل»، وهذا شاهد قوي على أن الإنسان كائن تلقائي في الانتظام على السائد وتلقائي في رفض الجديد كما أنه شاهد على أن التطور الحضاري ليس تراكميا وتلقائياً وإنما هو انبثاقات متقطعة تشبه الولادات الجديدة فالتقدم الإنساني في كل المجالات يتحرك بقدمين: قدم الريادة الفردية الخارقة وقدم الاستجابة الاجتماعية الايجابية الكافية ولا يمكن لأي مجتمع أن يتحقق له التطور والنمو والازدهار إلا إذا تحقق له التكامل العضوي بين هذين العاملين الأساسيين.
إن الدارسين في المدارس والمعاهد والجامعات لا يتلقون من المعارف إلا ما صار مستقراً وانتظم الناس فيه لكنهم في الغالب لا يتعرفون على مكابدة الرواد الذين أنتجوا لهم هذه المعارف اليانعة ولم يدركوا شيئاً من التاريخ المليء بالرفض العنيد من الذين يصيرون قد انتظموا في الجاهز المستقر لاعتيادهم عليه وانتظامهم فيه مما يجعلهم يتوهمون أنه مكتمل، إن الدارسين هم في الغالب مثل الذين يتناولون الثمار من غير أن يعرف كيف نبتت الأشجار ولا كيف غرست ولا كيف نمت ولا مقدار معاناة القائمين عليها حتى وصلت إليهم ثماراً يانعة، وربما أن هذا من أشد جوانب النقص في العملية التعليمية لأنها تهمل عنصر الإثارة وهو العنصر الأهم والضروري لفتح الأذهان..
إن معاناة الرواد تبلغ أحياناً درجة شديدة الإيلام والمرارة بل الفظاعة فتدفعهم إلى إيذاء أنفسهم من أجل أن يبرهنوا على ما رفض المنتظمون قبوله من الاكتشافات المهمة ومن ذلك قصة الطبيب الأمريكي الطلعة جولد برجر الذي عايش في النصف الأول من القرن العشرين انتشار (مرض الفاقة) الذي يعرف باسم (البلاجرا) وقد حيّر الأطباء عند انتشاره بشكل وبائي في الولايات الجنوبية من أمريكا ففتك بالناس من غير أن يعرف الأطباء سببه، ومع أن طبيعة الموقف الحرج تستدعي الانفتاح على أي اكتشاف قد يساعد في وقف ذلك البلاء إلا أن الطبيعة التلقائية للإنسان تستبقبيه مأسورا بالانتظام فلا يتقبل ما يغايره مهما كانت البراهين كافية ومهما كانت الظروف حافزة.
لكن الطبيب الأمريكي المقدام (جولد برجر) كان صاحب عقل متسائل وكان طبيباً حديث التخرج فلم يتبرمج بالممارسة العمياء تبرمجاً كاملاً، فكان ما زال مفتوح الذهن فلم يقنع بما قنع به عتاة الأطباء في الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من أن المرض ما دام أنه قد أخذ طبيعة الوباء في سعة انتشاره فإن هذا في نظرهم يدل على أنه ناتج عن (ميكروبات) معدية ولما كان المرض في اتساعه قد انتشر إلى أشخاص ليسوا بقرب المرضى فقد زعموا أن الميكروب يكون قد انتقل عن طريق الهواء فليس شرطاً حصول الملامسة، إن لدى الإنسان طاقة فائضة وجاهزة ومتدفقة لتبرير الرأي السائد وتأكيده واستبعاد الرأي الوافد ورفضه..
غير أن الطبيب المتسائل جولد برجر غير المنتظم في البرمجة السائدة لم يقتنع بهذا التشخيص فراح يبحث عن السبب الحقيقي الخفي فقد لاحظ أن الأطباء الذين يعالجون المرضى لم يصب منهم أحد بهذا المرض وكذلك لم يظهر المرض بين الممرضين رغم احتكاكهم المباشر بالمرضى، فاستنتج أن المرض ليس معدياً وبات الاحتمال وارداً لاستبعاد فكرة الميكروب ونفي فكرة العدوى ولكن لا بد من إثبات ذلك بالتجربة فراح يستقصي عن أحوال السجناء والمحجوزين في مستشفيات المجانين وملاجئ الأيتام ويستقصي عن المناطق التي ينتشر فيها المرض فلاحظ أن المرض محصور انتشاره في الأحياء الفقيرة وبين الفقراء فهو لا يصيب الأغنياء وتجمعت لديه وقائع كثيرة ومتنوعة تؤكد أن الهزال الذي يصيب الناس ويميتهم ناتج عن سوء التغذية وليس عن ميكروب وأجرى تجارب واختبارات على مساجين وقام باستقصاءات عديدة انتهى منها إلى أن المرض ليس جرثومياً وإنما تذوي الأجسام وتتحشف ويموت الناس لسوء التعذية فأعلن ذلك في مقال رصين موثق ولكنه بدلاً من الإشادة بجهده والتهليل له قوبل بالسخرية والتحدي ولم تكن السخرية من المستجدين في ممارسة الطب ولا من صغار العلماء وإنما هاجمه كما يقول أحد الأطباء المتابعين: «كبار العلماء ولا سيما أولئك الذين أنفقوا أعمارهم في البحث عن ميكروب لهذا المرض من دون نتيجة» إن المقاومة العنيدة الشرسة تأتي ممن ينعتون بأنهم من الراسخين في العلم وليس من المستجدين فيه!!!...
ولكي لا أطيل في تفاصيل القصة رغم دلالتها العظيمة يكفي أن أقول بأن هذا الطبيب الفذ قد جعل نفسه حقلاً للبرهنة والإثبات فاختار مريضاً على فراش الموت من أشد المصابين تدهوراً بالمرض ذاته وسحب منه نصف أوقية من الدم ثم حقن نفسه بهذا الدم وأصرت زوجته على أن يحقنها بكمية مماثلة، فسحب من مريض آخر من أسوأ المرضى حالاً كمية كافية من الدم وحقنها في ذراع زوجته أيضاً ولكن عناد العلماء الراسخين!! المعارضين لا يقف عند حد فاستمرت سخريتهم منه واستهزاؤهم به فاحتجوا بأن الميكروبات ليست محصورة في دماء المرضى وإنما قد تكون في برازهم وهنا كان التحدي فظيعاً مرعباً، لكن الطبيب الرائد لن يقبل الهزيمة مهما اشتدت مطالب المعارضين فهو يريد أن ينقذ المرضى كما أنه لن يترك فرصة النجاح تفلت منه مهما كانت فظاعة التضحية فاضطر إلى أن يتجرع من براز مريض مشرف على الموت ليس هذا فقط بل لقد خشي أن يدعي المعارضون دعوى جديدة فأخذ قشورا من جلد المريض المحتضر وقذفها إلى جوفه وبهذه الإثباتات الحاسمة صار التشخيص مقبولاً وأصبح علاج مرض (البلاجرا) سهلاً فهو لا يتطلب سوى تحسين مستوى التغذية!!!...
لقد تتبعت تاريخ العلوم المختلفة فوجدته مليئاً بالوقائع المماثلة وأثبت الكثير منها في أجزاء المشروع الفكري الذي أعمل عليه. أما هنا فأكتفي بما تقدم لعدم اتساع مساحة المقال لأكثر من هذا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.