رحم الله جدتي وجداتكم، كانت تقول لي (يرتبط يا ابنتي الفقر بقلة الدبرة)، والدبرة التي تقصدها جدتي هي حسن التدبير، والمعنى الاقتصادي لها هو التخطيط وتنظيم الميزانية، والمعنى الأكبر هو الأخذ من زمن الرخاء لزمن الشدة، (سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات) كما جاء بالقرآن الكري.. ومن حسن تدبير يوسف عليه السلام، أنه جعل من زمن الرخاء قوتاً وبذوراً لزمن الشدة.. ذاك لم يكن قانون جدتي وحدها، لكنه قانون بشري معروف، بل وحتى قانون حشري إن صح التعبير.. والشاعر الفرنسي (لامارتين) في قصته الجميلة الصرصار والنملة أوضحه لنا، فلقد غنى الصرصار أيام الصيف حيث الرخاء بينما عملت النملة لأيام الشتاء حيث أيام الشدة. فغنت النملة، وعندما تسولها الصرصار قالت له: غنيت بالصيف فارقص بالشتاء. وبعد هذه المقدمة، علينا أن نتذكر أيام الشدة التي عاشها مجتمعنا قبل أربعة قرون وحتى قريبا.. ومن ثم لم يتعلم البعض درسا من أيامهم ليكونوا مدبرين وقت الرخاء.. عندما أتى الرخاء أصبح البعض مهووسا بأشياء لم تكن لتطرأ على بال أجداده، الذين كانوا يتحملون مشقة السفر لتوفير لقمة العيش، متجاوزين صحارى وقفاراً.. في زمن الرخاء طار الرجال، وعبروا بحارا، وعبروا عن فرحتهم الغريبة ببذر نطف في أرجاء العالم، وعبر زواج شرعي، أو شبه شرعي، حيث توالت الفتاوى لمتعتهم بغريب الفكر (بكسر الفاء). بعد بضع سنوات، ظهرت النتائج، بدأت تلك النطف تجول حية في أروقة سفاراتنا في الخارج وعند مداخلها، ومن ثم بدأت محاكم تلك البلدان تبحث في قضايا النسب والنفقة والهوية .. ولأن هناك دولا غنية وذكية كما البشر، وهناك دول ضعيفة ومغلوبة على أمرها، فقد اختلفت الأمور من دولة لأخرى، ولكن وسائل الإعلام لم تألُ جدا ففضحت المستور.. الذي لايمكن ستره حيث الصغار كبروا وحقوقهم كبرت معهم.. نحن بالطبع مع حرية الإنسان بالسفر والزواج وهي حق كفلته كل الشرائع، لكننا بالتأكيد مع الزواج المستقر والذي يراعي الكفاءة وبقاء العشرة ما بقيت الحياة، ولا يعني إرضاء شهوة مؤقتة، فذاك يدخل ضمن سوء الدبرة، قانون جدتي، أكثر من مرة، المرة الأولى، تبذير لا داعي له ما دام هناك زواج شرعي أصلي للاستقرار، والثاني استهتار بحقوق الغير.. وكلمة لابد من قولها، إذا كان الأمر تم للذة مؤقتة، فعلى الأقل توخي الحذر في إنتاج ذرية تنتشرحول العالم، وبظروف ومجتمعات لا تمت لمجتمعهم بصلة، وطرقها معروفة، حتى وإن رفضت الزوجة المؤقتة تناول موانع الحمل. إذا كان نداء الذكورة أقوى من نداء التفكير المستنير، وصارت النطفة علقة، فليس من الرجولة التخلي عن الصغار وجعلهم عرضة للمشاكل، فالهوية حق والنفقة حق، أما أن يترك الأطفال منثورين حول العالم يبحثون عن هوية أو يأخذون هوية أمهاتهم، فهذا يمثل قمة التنصل من المسؤولية المادية والاجتماعية، كما يمثل الإخلال بشرع الله الذي تم التحايل واللف عليه بزواجات الإفتاء الغريبة، التي زوجت ولم تفكر بالنتائج .. ولا بما يترتب على ذلك من إثم في الآخرة ومشاكل في الدنيا وإضرار بالطفل وأمه من جهة، وبالفضيحة للوطن ككل وهو مهبط الوحي وبلاد الحرمين الشريفين. ورحم الله حكمة الجدات، إذ قلن يرتبط الفقر بقلة التدبر، وكان ممكناً استغلال أيام الطفرة بتنمية الوطن وزراعته علماً وأدباً.. لا بزيادة بشر بمشاكل تتحرك حول العالم..