تحملت كثير من الأسر على معاناتها، وأصرت على غض الطرف عن ابن يتعاطى المخدرات ويروج لها، أو أخ يتبنى فكراً ضالاً، أو متطرفاً، أو قريب منحرف في سلوكيات سيئة، حتى جاء اليوم الذي انكشف الأمر، ولم يعد هناك مبرر للصمت سوى المدارة عن وجوه الآخرين، والخروخ من ضيق النفس إلى ضيق المكان..هكذا تكون الحكاية عند مبتدأ السكوت، والخوف، والشعور بالألم، والإسراف في الأمل.. العقيد الغنام: المُبلغ عنه لا يُعامل كمجرم ونحافظ على سرية قضيته سعياً لإصلاحه كل هذا يدعو المجتمع أن يعي أهمية الإبلاغ عن الابن المنحرف قبل أن يستفحل أمره، لا سيما إذا لم تتمكن الأسرة من تغيير سلوكه واحتوائه وإعادته إلى جادة الصواب وطريق الهداية، وكم أبدى أب وأم وأخ وأخت ألمهم وحزنهم على عدم إبلاغهم عن ابنهم المنحرف فكرياً وسلوكياً؛ فكانت النهاية سيئة حين تجاوزت ذاته إلى الآخرين ظلماً وقتلاً، وأسوأ حين كانت أشد وقعاً على الوطن. توبة وعودة وذكرت "أم أحمد" -أرملة ابتليت بابن مدمن ومروج للمسكرات- أنّها لم تترك أسلوباً للمناصحة إلاّ واستخدمته مع ابنها، ولم تدع شخصاً تظن أنّه يؤثر عليه إلاّ وطلبت مساعدته، ولكن في نهاية المطاف لم تجد حلاً سوى الإبلاغ عنه، مضيفةً: "كأي أم كنت متخوفة جداً من إقدامي على خطوة كهذه، خوفاً على مستقبله العلمي والوظيفي، ولكني لم أجد بداً منها، فقد بت أخشى على أبنائي من شره، ولكن وبعد أن تم القبض عليه من قبل رجال الأمن أحسست بمدى إنسانيتهم وشفقتهم، فقد ساعدونا في تهذيب سلوكه وإقلاعه عن الطريق المعوج، وعزمه على التوبة والعودة إنساناً صالحاً يساعدني على لقمة العيش وتربية إخوته، وأنا أنصح كل أم مبتلاه أن لا تتردد في الإبلاغ قبل فوات الأوان". العقيد فهد الغنام تسويف وتأخير وبيّن "أبو يوسف" أنّه حاول مراراً وتكراراً إصلاح ابنه وتوعيته بخطورة رفاق السوء، ولم يفكر يوماً أن يبلغ عنه رغم تعاطيه المخدرات وبيعه لها، وحمله الآلات الحادة والأسحلة الممنوعة، حتى فوجىء بالقبض عليه في قضية قتل أثناء تناوله المسكر، مضيفاً: "تلك اللحظة فقط أحسست وكأني استيقظت من سباتي، وشعرت بحجم إهمالي له، وبكيت بكاءً مريراً، وتحسرت على تفريطي به وتركي له ألعوبة بيد الهوى والنفس الأمارة بالسوء، وأدركت أني لا أحسن التربية ولم أقدر المسؤولية، وكنت أخشى عليه التوبيخ والتقريع أو السجن لو بلغت عنه، فكان أن أتى بما أدمى قلبي وقتل أمل الأسرة به، والآن وبعد مضي سنوات على سجنه تغيّر حاله كثيراً داخل الزنازين وأضحى من خيرة النزلاء بشهادة المسؤولين في شعبة السجن العام، وحاولت بمعية أهل الخير أن أقنع أصحاب الدم بالتنازل عنه، إلاّ أنّ مقتل ابنهم ترك أثراً عظيما في نفوسهم، وللأسف كانت فرصة الإبلاغ عنه مواتية ولكن الخوف من الفضيحة وكلام الناس جعلاني أسوف الفرصة وأؤخرها حتى وقع ما ليس في الحسبان". ثمن السكوت وأوضحت "أم سعد" أنّها كانت سبباً في انحراف ابنها، فقد كانت تلاحظ تغيّر سلوكياته باقتنائه لأجهزة ثمينة واستئجار سيارات فارهة، مع مبررات هزيلة جداً لا ترقى للمصداقية، مبيّنةً أنّها كانت ترفض الإفصاح حتى لوالده خشية معاقبته، حتى ألقت الجهات الأمنية القبض عليه مع عدد من أفراد العصابة التي كان يديرها وافد أثناء اقتحامهم متجراً كبيراً، وحكم عليه بالسجن (10) سنوات، مضيفةً: "نزل الخبر عليّ كالصاعقة، وأخذ الجزع مني كل مأخذ، وأخذت أعض أصابع الندم على تفريطي وخوفي عليه بدلاً من الإبلاغ عنه لإصلاحه، وأنا أناشد كل أم أن لا تأخذها العاطفة حين تلحظ انحراف ابنها، بل يجب أن تخبر والده أو من تظن فيه التأثير والإصلاح من أقاربه، وإن لم يجدِ ذلك نفعاً فعليها الاتصال بالأجهزة الأمنية المختصة، فهي الأقدر -بإذن الله- على تقويم المعوج وإعادته مواطناً صالحاً يسهم في رفعة أسرته وبناء وطنه". سرية تامة وقال العقيد "فهد بن عامر الغنام" -الناطق الأمني في شرطة منطقة المدينةالمنورة-: "أي بلاغ يرد من الآباء والأمهات حول جنوح الأبناء يتم التعاطي معه بسرية تامة، ولا يتم التعامل مع المبلغ عنه كمجرم، بل كمريض يحتاج إلى علاج خصوصاً مدمني المخدرات، حيث يتم إحالة المدمن لمستشفى الأمل بعد أخذ التوجيه من مقام إمارة المنطقة، وتجد البلاغات تعاملاً حكيماً من رجال الأمن الذين يحاولون المناصحة أو التوجيه بإشراك جهات استشارية نفسية أو اجتماعية متخصصة أو مجالس الأحياء، وإذا اتضح أنّ هذا الشخص يجب أن يتم اتخاذ إجراء بحقه حفاظاً على سلامته وأسرته ومجتمعه؛ فإما أن يكون دون سن الرشد ويتم التحفظ عليه وإحالته لدار الملاحظة الاجتماعية، أو متجاوزاً لهذا السن فيتم التحفظ عليه في الأماكن المعدة للنزلاء في المخافر أو السجون حتى الانتهاء من الإجراءات الرسمية". وأضاف:"ترد بلاغات قليلة جداً من الأسر ولم تصل إلى حد الظاهرة؛ كون هذه الثقافة ما زالت غائبة، إضافةً إلى تستر بعض الآباء والأمهات على الابن رغم خطورته، ونتفهّم مشاعرهم وعاطفتهم وحرصهم على عدم فضح أبنائهم، ولكن هذه المشاعر ستجني على الإبن مستقبلاً، فكثير من السلوكيات والانحرافات يمكن علاجها مبكراً، ومع مرور الوقت قد تستفحل ويصعب علاجها". وأشار إلى ضرورة أن يحذر الأبناء من مغبة العقوق وسلوك طرق الغواية ومصادقة رفاق السوء؛ فعاقبتها لا تخفى على أحد ونهايتها مؤلمة، داعياً الآباء والأمهات إلى اللّين في التعامل والمناصحة والاستشارة ومعرفة رغبات الأبناء والانفتاح على متطلباتهم، والاستماع الجيد لهم، ومشاركتهم همومهم، وبناء الثقة التي لا تقتصر على مجرد العاطفة، بل تمتد لخلق أجواء من الحوار الهادف البناء الذي يشمل كل تفاصيل حياتهم بما فيهم الأصدقاء، ونوعية الأفكار، والشخصيات المؤثرة فيهم، والمواقع الإلكترونية التي يتصفحونها.