قبل أن تصل الرواية إلى المكانة التي وصلت إليها اليوم في العالم العربي، كانت ولادتها ولادة صعبة. فعندما أصدر الدكتور محمد حسين هيكل المثقف المصري العائد من باريس، والمتأثر بالأدب الفرنسي، روايته «زينب» التي يصنّفها البعض بحق أو بباطل، أول رواية عربية في العصر الحديث، خجل أن يضع عليها اسمه كمؤلف لها. فقد نُشرت الرواية باسم (فلاّح) لا باسم هيكل. وقد مضى وقت طويل قبل أن يعاد طبع الرواية ثانية، وقبل أن يُعرف أن هيكل هو مؤلفها. ويبدو أن هيكل الذي انغمس لاحقاً في العمل السياسي في مصر وأصبح نائباً ووزيراً وعضواً بارزاً في حزب الأحرار الدستوريين، لم يجد ما يغريه بمتابعة الروايات. وربما نظر إلى كتابته (لزينب) على أنها نزوة لا تليق بسياسي كبير وحتى بكاتب كبير. ومع أن عبارات «الريادة» والتأسيس هي عادة عبارات مغرية في عالم الأدب، إلا أن هيكل تنكر لاحقاً كل التنكر لابنته زينب، وآثر أن يدخل التاريخ المصري الحديث من أبواب أخرى كالسياسة والفكر وما إليهما، لا من باب القصة والرواية.فقد ذكر بعض الباحثين أن الروائي المصري الراحل يوسف السباعي دخل يوماً على أحد الوزراء في مصر فوجد عنده الدكتور محمد حسين هيكل. كان ذلك في بداية الخمسينيات من القرن الماضي، عقب نجاح ثورة يوليو، وكان يوسف السباعي من رجال هذه الثورة، وفي الوقت نفسه رئيساً لنادي القصة.. اهتمّ السباعي اهتماماً كبيراً بهيكل على أساس أنه صاحب «زينب» ورائد فن القصة والرواية في مصر، وعرض عليه منصب رئيس شرف نادي القصة. تقول الرواية أن هيكلاً سمع ما قاله له السباعي ولم يرد. بل إنه تابع حديثه مع الوزير الذي كان يزوره لغرض ما ولم يُول اقتراح السباعي، ولا السباعي نفسه، أي اهتمام.. وهذا دليل على أن «زينب» كانت مجرد لحظة عابرة أو هاربة في حياة هذا المثقف والمفكر والسياسي المصري الكبير، إن لم نقل أن الاهتمام بالرواية كجنس أدبي في مصر ظلّ حتى بدايات صعود محمود تيمور ونجيب محفوظ اهتماماً محدوداً. في حين كان الاهتمم بالأدب والشعر والنقد هو الاهتمام المهيمن على الساحة الثقافية في مصر وفي العالم العربي على السواء. وقد عرفت الرواية ابتداءً من الخمسينيات من القرن الماضي ثراً وجذراً في العالم العربي. فكانت تزهر حيناً لتنتكس حيناً آخر. وكانت تزدهر في أقطار، ولا يوهب له هذا الازدهار في أقطار أخرى، تبعاً ربما للتطور الاجتماعي والاقتصادي. ذلك أن بعض الباحثين - ومنهم الروائي الفلسطيني الراحل جبرا إبراهيم جبرا - يرون أن الرواية هي فن المدينة، لا فن القرية، أو الريف، أو المجتمع الزراعي. فهي تنمو وتزدهر ويتصاعد نفوذها في مدينة عصرية، صناعية على الأغلب، تتشابك فيها العلاقات الاجتماعية، وتتفكك فيها الروابط الأسرية والعائلية، حتى ليكاد المرء يتحول في المدينة إلى كائن فرد وحيد يواجه عالماً قدرياً يشعر تجاهه بأنه متروك لوحده، وعاجز عن مواجهته. فالمدينة هي المسرح المثالي للرواية، إن لم تكن هي مادته. غذاؤه وتعبيره الأمثل في الوقت نفسه. ولأن مثل هذه المدينة العصرية المتطورة التي تتشابك فيها العلاقات، وتكثر فيها أزمات الذات والوجدان، غير معروفة بما فيه الكفاية بين مدننا العربية، فإن الشعر ظل الجنس الأدبي الأول عند العربي. إنه الجنس الأدبي للذات المنغمسة في حياة الفطرة والفروسية والعاطفة وسائر أخلاقيات الأرياف والمجتمعات التي لم تصل بعد إلى مرحلة الصناعة والتطور الاجتماعي والصناعي والتجاري على النحو الذي شهدته أوروبا ابتداءً من النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مروراً بالقرن العشرين كله، وصولاً إلى يومنا الراهن. والواقع أن في نظرة هؤلاء الباحثين إلى تطور الرواية، وكون المدينة هي مسرحها ومادتها، قدراً كبيراً من الصحة. فمن يراقب تاريخ الأدب وتطور الأدب في المجتمعات الأوروبية الحديثة يجد أن الشعر قد تراجع كثيراً فيها، في حين تقدمت الرواية وتحولت - بلغتنا وتعبيرنا المعروف - إلى «ديوان» الحياة الأوروبية المعاصرة. فالرواية هي الجنس الأدبي الأول في أوروبا الآن، ولا يليها الشعر، بل فنون كثيرة غيره ليأتي هو - أي الشعر - في ذيل هذه الفنون نظراً لعجزه عن أن يكون ترجمان الحياة المعاصرة بكل ما يمور فيها من أحداث ووقائع وحقائق ورؤى مختلفة. وقد ظل النقاش حول جدوى الرواية ومدى أهميتها وحتى لزومها في حياتنا المعاصرة، يتردد باستمرار في سجالات الأدب في عواصم عربية مختلفة، وإلى وقت قريب. هذا إن لم نقل أن هذا النقاش ما زال دائراً إلى اليوم، وأنه إن جنح إلى الفتور أو الهدوء حيناً، عاد ليتّقد من جديد ساخناً متوتراً. فقبل سنوات قليلة أصدر الناقد المصري الدكتور جابر عصفور، الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة بمصر، كتاباً عنوانه «زمن الرواية». ومن العنوان يمكن فهم موضوع الكتاب، فمؤلفه يرى أن نفوذ الشعر عند العرب إلى انحسار، وأن الرواية تقدمت لتحل محله. لقد كان الشعر في الماضي هو ديوان العرب، لأنه كان فنهم الوحيد أو شبه الوحيد، وفيه أودعوا عبقريتهم، كما أودعوا تاريخ أيامهم. ولكن النظرة المجردة والعادلة إلى واقعنا العربي الراهن تدلنا - كما يرى مؤلف الكتاب - أن ذلك كان في الماضي. فالشعر تراجع الآن لتتقدم فنون أخرى عليه في طليعتها الرواية لأسباب كثيرة. وكتاب «فن الرواية» يرصد هذه الأسباب ويحللها ويعلن أن عصرنا اليوم هو عصر الرواية، لا عصر سواها.. بالطبع لم ينج هذا النظر من اعتراضات كثيرين. فقد ردّ كثيرون من الشعراء وغير الشعراء على كتاب «زمن الرواية»، منهم الشاعر المصري فاروق شوشة الذي أصدر كتاباً عنوانه «زمن الشعر». والعنوان أيضاً ملفت ومعبّر. ومحتوى الكتاب هو ردّ على كتاب «زمن الرواية» أو نقض له، على الأصح. فالصراع إذن ما زال على أشده بين شاعر يمجّد شعره، وروائي يقول إن روايته هي الصحيحة. على أننا نرى أن أول معركة للرواية - معها أو ضدّها - هي تلك التي دارت في مصر في منتصف الأربعينات بين عباس محمود العقاد من جهة، ونجيب محفوظ (وكان لا يزال في شبابه) من جهة أخرى، وذلك عندما كتب العقاد في مجلة (الرسالة) القاهرية عدد 3 سبتمبر 1945م مقالاً فاضل فيه بين الشعر والقصة (أو الرواية) وجعل للشعر أهمية تعلو على القصة، وبالنظر لأهمية تلك المعركة، وما دار فيها من آراء وحجج، فإننا سنفرد لها مقالاً خاصاً..