يمضي الإعلامي جلّ عمره، وكامل تجربته المهنية، وهو يدرب قلمه ويعسفه باتجاه الموضوعية والحياد، والابتعاد عن ميوله وأهوائه، والسيطرة على طفرات العواطف وشخصنة المواقف ، إلى أن تترصد به حالة انفعالية هائلة فيجد بها ومن خلالها أن الاستبسال في الحياد والأمانة يكبل تدفق العواطف، وأنه بات سمة من سمات هذا القلم وسجية من سجاياه . تماما كما هي الحال لدى د.عبدالرحمن الشبيلي في كتابه (حديث الشرايين) الذي يرصد فيه تجربة وجودية كبرى مرت به على مدى ستة عشرعاما من مرض ابنه الشاب (طلال) .. يرحمه الله. كتاب دونت سطوره بجوار سرير ابنه في العناية المركزة وهو يتنقل به بين مصحات العالم يقول فيه (لكم تمنيت أن تكون هذه الرسالة من إملائه، وألا أضطر، وهو غائب عن الوعي، إلى الخوض في الكتابة من وجهة نظري عن حياته الخاصة، وألا أكشف شيئا من أوراقه التي هي ملكه الشخصي) لنجد هنا أن الحياد الإعلامي والحرص على أمانة النقل تسللا إلى قلم د.الشبيلي وهو في أقسي المواجهات وأشرسها على أب جهزته فطرته ليحمي ويساعد ويدعم، ولكنه ينصت إلى حشرجات أنفاس ابنه طلال وهو يساقط أنفاسه.. فلايملك حيال هذا شيئا. أوجاع السرد جعلتني أستدعي أبيات الشاعر العباسي ابن الرومي وهو يرثي ابنه: ألحَّ عليه النَّزفُ حتى أحالَهُ إلى صُفرةِ الجاديِّ عَنْ حُمْرَةِ الوردِ وظلَّ على الأيدي تَسَاقَطُ نَفْسُه ويَذْوِي كما يَذْوِي القضيبُ مِن الرَّنْدِ ِفَيالكِ مِنْ نَفْسٍ تَسَاقَطُ أنفسًا تَسَاقُطَ دُرٍّ مِنْ نِظَامٍ بلا عِقْدِ عَجبتُ لقلبي كيف لم ينفطرْ لهُ ولوْ أنَّهُ أقسى من الحَجَرِ الصَّلدِ كتاب (حديث الشرايين) رحلة شفافة صادقة ونبيلة لرجل لم يتخل عن إيمانه وتماسكه في مواجهة إحدى حقائق الحياة المتربصة..المرض، يرصد د.الشبيلي مطالع حياة (طلال) ومقاطع من سيرته بتدفق شجي كأنين سانية منهمرة . الكتاب يجعلنا نحمل المزيد من التقدير والاحترام لهذه الشخصية الإعلامية الناجحة التي جوهرتها الأحزان وصقلت بريق جوهرها، فطوال رحلته الصعبة مع مرض(طلال) لم ينكسر أو يتوارى، ولم يتخل عن حضوره الإعلامي وإنتاجه وتأليفه، يرافق هذا نبل خصاله الاجتماعية، ولا أنسى زياراته التي لم تنقطع للوالد - يرحمه الله - وهومسجى على سرير المرض، في استراحة المحارب الأخيرة، وقد اختفى من حوله الحواة والمهرجون وقناصو الفرص، ولم يبق إلا النبلاء والمخلصون وذوو السجايا النادرة من أمثال د.الشبيلي الذي كان يداوم على زيارة شيخه، ويقف بجانب سريره يكلمه ويحييه بينما الوالد غائب في ملكوته الأبيض فتغرورق عيناه بالدموع.. ويغادر. تجربة (حديث الشرايين) تجربة لم يخضها د. الشبيلي وحيدا كان بجواره عائلته الصغيرة (أم طلال) السيدة الجميلة الشامخة التي تتجلى الأناقة والتماسك والصبر في جميع حركاتها وسكناتها، حتى وهي في مواجهة مباشرة مع الفجيعة، وتتبدى أيضا ابنته اليانعة (شادن) التي لها بهاء الزهور البرية، وبقية أفراد أسرته الصغيرة، التي قد تتسع أحيانا لتشمل جميع من كان جزءا من حياة د. عبدالرحمن الشبيلي . رحم الله (طلال ) وأكرم مثواه، وأسكنه فسيح الجنان، وثبت عائلته وألهمهم الصبر والسلوان..