أنا أمام سفر شخص صنفه باحث مدقق وعالم محقق أودع فيه علماً غزيراً، وأصاب أدباً بليغاً وقدمه شراباً سائغاً للقراء بعد أن لقي في تأليفه نصيباً من الجهد والمشقة وأنفق عليه من عمره سنوات، إنه كتاب (التواصل الثقافي بين السعودية واليمن) لعلاَّمة جازان حجاب الحازمي الذي تقصى فيه الدور المعرفي بين أبناء هاتين الجارتين الشقيتين (السعودية واليمن) منذ ميلاد الدولة السعودية الأولى عام (1157ه) حتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وقد نالت الفترة الحديثة للمملكة منذ تأسيسها على يد الملك عبدالعزيز - رحمه الله - حصة وافرة من المتابعة والبحث والتقصي حيث ازدادت وشائج المحبة بين البلدين وتطورت وسائل الاتصال بين الشعبين فكان كل ما ينشر في أحد البلدين يجد صداه عند طائفة المثقفين وطلبة العلم، لذلك نجده يضيء الجوانب الهامة ويقدم اللمحات الضرورية في تاريخ هذه العلاقة. يقول المؤلف في معرض حديثه: وهذا البحث اختار أن يقدم لمحات عن التواصل الثقافي بين البلدين الشقيقين الجارين(اليمن والبلاد السعودية) فإن ذلك ربما صَّعب عليه بين البلدين وكذلك ربما جعله بمنأى عن تناول الجوانب الاقتصادية والاجتماعية وغيرها من الجوانب المهمة التي تربط بين البلدين الجارين، لا لشيء، إلا لأن لتلك الجوانب مسارات كثيرة جداً ومجالات القول فيها واسعة لا تحيط بها المساحة الممنوحة لهذا البحث، بل إن كل جانب منها جدير بأن يفرده المختصون بأبحاث لا تطمح لمثل هذا الشرف، ولا تستطيع أن تدعيه حتى وإن مست بعض جوانبه مساً خفيفاً تقتضيه الضرورة، ذلك لأنها قد اختارت أحد الجوانب المهمة ألا وهو جانب التواصل الثقافي بين البلدين. يستهل الباحث الحازمي هذا المؤلف بكتابة مدخل تاريخي يكشف فيه التواصل الثقافي بين أقطار الجزيرة العربية، ثم يعقبه بنماذج للتواصل الثقافي بين اليمن وبلاد الحرمين في الفترة من (650ه) حتى (1157ه) بعدها يمهد للصلات الثقافية بين الدولة السعودية الأولى واليمن وتأثير الفكر السلفي في اليمن وظهور طائفة من أدباء تلك الحقبة وعلمائها كالشوكاني والصنعاني وابن وصال الأحسائي وابن بشير، كما يرصد مواقف علماء اليمن من الدعوة الوهابية وبداية المراسلات العلمية بين علماء اليمن وقادة وعلماء البلاد السعودية ومنهم العلاَّمة اليمني لطف الله جحاف، والعلاَّمة الأمير الصنعاني، وكذلك الإمام الشوكاني، بعد ذلك يعرج المصنف إلى العلاقة الثقافية مع اليمن إبان الدولة السعودية الثانية ويصور مد الجسور الثقافية في هذا العهد وكان من أبرز هذا العصر السيد علوي السقاف والشاعر عبدالله المغيرة النجدي الذي وفد إلى حضرموت. أما جوهر الكتاب فيصرفه السيد الحازمي على العصر الحديث مع بزوغ فجر توحيد المملكة الذي ازدادت علاقة المملكة العربية السعودية بالجمهورية اليمنية وثوقاً وقربى وامتدت العلاقات بين الشعبين فاضحت أكثر متانة وأشد عمقاً. ويفرد لهذا العصر الميمون صفحات كثيرة بدءاً بالأحداث السياسية التي وقعت بين الملك المؤسس وإمام اليمن فقد فعّل الشاعران محمد محمود الزبيري وعبدالرحمن السقاف جذوة هذا التواصل، فينشد الشاعر الزبيري هذه الرائعة التي نشرتها صحيفة أم القرى عام 1358ه: قلب الجزيرة في يمينك يخفق وهوى العروبة في جبينك يشرق ولعمر مجد المسلمين لأنت في أنظارهم أمل منير شيق وهبوك أفئدة الولا ووهبتهم مجداً تقدسه القلوب وتعشق إن الجزيرة شرقها ودبورها وشمالها حرم بوجهك مونق وتأكيداً لهذا التواصل يبرز صوت الشاعر الكبير علي أحمد باكثير بقصيدة سامقة يمدح فيها الملك عبدالعزيز: عبدالعزيز الفارس المغوارالملك المظفر جئت الحجاز فصنته ممن يعيث به ويفجر وأقمت فيه الدين ن أوهام سطرها مؤجَّر كما طارح الشاعر ء باكثيمر كوكبة من شعراء المملكة.. نشر بعض منها في مجلة المنهل ومن هؤلاء الشعراء طاهر زمخشري وعبدالقدوس الأنصاري وأحمد ياسين الخياري وكذلك طارح الشاعر اليمني عبدالرحمن السقاف والشاعر السعودي أحمد الغزاوي وكذلك مطارحات العلامة اليمني محمد زبارة مع الشيخ تركي الماضي والشيخ عبدالظاهر أبو السمح وكذلك هجرة الأخوين محمد طاهر وحسين الدباغ إلى حضرموت وإنشاء مدرسة الفلاح بالمكلا وكان في المقابل هجرة معاكسة حيث هاجر العلامة الحضرمي أبوبكر الحبشي والعلامة أحمد الحضراني إلى مكة وهو ما يؤكد التواصل المعرفي بين البلدين. أما التواصل الثقافي بين السعودية واليمن في عهد الملك سعود بن عبدالعزيز لاسيما حين زار اليمن فحياة الشاعر محمد زبارة بقصيدة طويلة ومما جاء فيها: ألف أهلاً بظل باري الوجودي ورضيع الندى ربيع الوفود خادم البيت والحجيج وجيران إله الورى: المليك (سعود) نجل صقر الجزيرة الملك المرحوم عبدالعزيز آل سعود ألف أهلا بخير من زار صنعاءمن مليك مُسوَّد ومَسُود وحين زار ملك اليمن الإمام أحمد المملكة العربية السعودية ألقى الشاعر أحمد الغزاوي قصيدة مطوله حيا بها الضيف وقال فيها: بشرى العروبة بالضحى المتجدد وبملتقى سعد (السعود) و(أحمد) بمتوجين كلاهما في شعبه ملء العيون وفخر كل موحد فكأنما الإسلام أشرق فيها حقاً وبورك صرحه بمشيد كما كان لكل من الأدبين الشيخ حمد الجاسر والشيخ محمد العقيلي اهتمامهما الكبير باليمن وتاريخه وأعلامه ممن تواصلا معهما الدكتور محمد عبده غانم والعلامة حسين الحبشي والعلامة محسن أبو طالب وما دار بينهم من رسائل وتهادي الكتب وتبادل الزيارات. أما في عهد الملك فيصل بن عبدالعزيز فقد حظى بإعجاب من الشاعر الزبيري الذي قدر له أن يضرب من الملك فيصل مثلاً للزعامة الناجحة فيقول في إحدى قصائده: بني قومي حذار فإن تمادت غوائلنا هلكنا أجمعينا لكم من (فيصل) وبني أبيه مثال في السياسة تقتدونا أهاب بقومه نحو المعالي وأخرج من كنوزهم الدفينا وقرب كل ذي رأي وتقوىومعرفة وأقصى الآخرينا كذلك نجد الشاعر اليمني أحمد الحضراني يمتدح جهود الملك فيصل في نصرة إخوانه في اليمن ومواقفه الرائعة أما الشاعر محمد بن علي السنوسي فيشارك بقصيدة رائعة يشارك با بعد توقيع الاتفاقية التي جرت بين اليمنيين فقال فيها: قرت قلوب الأمنيات وزهت أسارير الحياة وتناثرت فوق الجبال الشم أنغام الحداة وتعانق الإخوان وأطرحوا أكاذيب العداة أما الشاعر اليمني أحمد الشامي فقد حيا دور المملكة وقادتها بهذه القصيدة التي منها: حيِّها كعبة العلى والكرامة ورياض الهدى ومأوى الشهامة حيِّها غابة الأشاوس من أدغال أبها إلى سفوح اليمامة حيِّها والجبال فيها تناجي بحنان القربى سهول تهامة وحين استشهد الملك فيصل بن عبدالعزيز رثاه ثلة من شعراء اليمن منهم الشاعر يحيى مطهر والشاعر أحمد شرف الدين والشاعر محمد منصور والشاعر حامد المحضار والشاعر أحمد باحشوان وهذا الزخم الشعري تأكيداً على مكانة الفيصل العربية والإسلامية. وإذا تأملنا عهد الملك فهد بن عبدالعزيز لوجدنا أنه عهد أتسم بتعدد المناشط الثقافية بين البلدين فأقيمت الأسابيع الثقافية والفعاليات الأدبية على هامش معارض الكتب وكذلك اللقاءات العلمية بين جامعات البلدين وإقامة أمسيات ثقافية وشعرية لأعلام يمنية ومنها ندوة الأديب عبدالعزيز الرفاعي التي كرَّم فيها الأديب والراوية اليمني أحمد الحضراني كما كرَّمت الأديب والشاعر اليمني أحمد الشامي، ولو تأملنا اثنينية الشيخ عبدالمقصود خوجة نجدها قد احتفت بكوكبة من رجالات اليمن البرزين أمثال: أحمد الشامي وأحمد النعمان وعبدالمجيد الزنداني إلى جانب غيرهما من الملتقيات الثقافية والصالونات الأدبية، كما ملتلقى أبها الثقافي الذي استضاف الأديب اليمني الشاعر أحمد محمد الشامي وقد حيا مدينة أبها بقصيدة مطلعها: لصنعاء قد حبست دهراً خرائدي وما في بياني من طريف وتالدِ ولم يسب عيني بعدها غير ما رأت(بأبها عسير) من جميل المشاهدِ كذلك كانت هناك صالونات ثقافية أخرى حربت واحتفت بأعلام الشعر والأدب في اليمن ومنها خميسية الشيخ حمد الجاسر وأحدية الدكتور راشد المبارك. وحين ترصد المشهد الثقافي بين المملكة واليمن في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز تراه يزخر بالتواصل المعرفي والأدبي بين الجارتين ويصل إلى ذروته حيث زادت المنح الدارسية للطلاب والطالبات اليمنيين في الجامعة السعودية ودعم تمويل المشروع الخاص بترميم بعض مخططات مدينة زبيد الأثرية وتنظيم الجامعات السعودية أياماً ثقافية وعلمية بالجامعة اليمنية، إلى جانب تدريب أكثر من (120) صحفياً يمنياً من قبل مركز الأمير أحمد بن سلمان بالرياض، وفي المقابل تطبع وزارة الثقافة اليمنية ديوانين للشاعرين عبدالله ثابت ومحمد مسير مباركي، ومجموعة قصصية ضمت قصصاً لأبرز الأصوات القصصية في المملكة، وفي عام 2009م أقيمت الأيام الثقافية السعودية في اليمن وكانت حدثاً بارزاً في مسيرة التعاون الثقافي بين البلدين شاركت فيها المملكة بأنشطة شعرية وقصصية ونقدية ومسرحية وسينمائية وتشكيلية وفنية شارك فيها جمهرة من البارزين في هذه الفنون، وكان قبل ذلك أن استضافت مؤسسة العفيف الثقافية في اليمن كوكبة من الشعراء والأدباء والأكاديميين السعوديين منهم الشعراء أحمد البهكلي وأحمد الحربي وعيسى جرابا وموسى عقيل والأكاديمي الدكتور علي الصميلي، وفي المقابل نجد مرك الشيخ حمد الجاسر الثقافي يقوم بزيارة لمحافظة حضرموت وقد ضم الوفد طائفة من المؤرخين الأدباء والكُتاب والإعلاميين، وبعد عامين من هذه الزيارة يلبى المثقفون السعوديون دعوة لزيارة اليمن احتفاءً باختيار مدينة (تريم) عاصمة للثقافة الإسلامية لعام 2010م، حيث حاضر الدكتور عبدالرحمن الشبيلي في ثلاث مدن حضرمية هي سيئون وتريم والمكلا، كما ألقى الشاعر عبدالقادر كمال قصيدة تعزز التواصل الثقافي بين البلدين. وعلى هذا المنوال تسير صفحات هذا الكتاب (التواصل الثقافي بين السعودية واليمن) في تقصي كل واردة وشاردة أثرت المشهد الثقافي بين البلدين وعززت من أواصر المودة بين الشعبين وقد كلف الباحث جهداً كبيراً من وقته وصحته في سبيل إبراز هذا الدور الهام الذي يجمع الإخوة تحت مظلة الثقافة وخيمة الأدب.