يصادف في هذه اللحظة التي أكتب فيها هذا المقال احتفالات رأس السنة الميلادية في العالم عدا المملكة طبعا. بعد أربع ساعات حسب توقيتي الآن (لندن) سوف تدق أجراس الكنائس لتعلن نهاية عام وبداية عام. بعض الإخوة السعوديين غادروا المملكة لحضور هذه المناسبة. شاهدتها مرتين في حياتي. لم أجد في هذه الاحتفالات ما يستحق التفرج. أعرضت عنها بعد ذلك. لا أعرف هل تغيروا أم بقوا على حالهم؟ ما تغير في نظري هو الصحف السعودية. كانت نهاية السنة مناسبة للتعرف على أهم الكتب التي قرأها فلان وأهم بلد زارها فلان، وما توقعات فلان للسنة الجديدة. كان يمكن أن تكون هذه التقارير مفيدة لولا تجربة مرت علي قبل سنوات جعلتني أعرض أيضا عن قراءة هذه التقارير. كنا مجموعة نجلس في إحدى المقاهي بالرياض بشكل دوري. كان هذا قبل أكثر من عشرين سنة. نجتمع لنناقش أحوال الأدب والثقافة. لم تكن أحوال المجتمع الاقتصادية أو الدينية او الاجتماعية من مسؤولية المثقفين. كلمة كاتب تعني أديبا بكل فروع الأدب أو صحفيا رياضيا أو صحفيا اجتماعيا والأخير وظيفته جمع الأخبار السارة التي تزوده بها إدارات العلاقات العامة في الدوائر الحكومية، وكلما زادت الاخبار التي يأتي بها سرورا وغبطة زادت مكانته الصحفية وغلا سعر بشته. نشرت الصحف في تلك السنة عددا من المحاور الصحفية حول الكتب. (المحور) حسب صحافة زمان هو أن يتصل الصحفي على عدد من الكتاب ويطرح عليهم سؤالا واحدا أو سؤالين. في آخر السنة يكون السؤال غالبا عن الكتب. ما أروع كتاب قرأته في العام المنصرم، وما هي أفضل رواية قرأتها، وما هو افضل كتاب سعودي اطلعت عليه؟ .. وهكذا. معظم الحاضرين في القهوة في تلك الجلسة الميمونة طرحوا آراءهم والكتب التي يفضلونها في الصحف. كان بيننا اديب وناقد مرموق بل في غاية (الارماق) إن جاز التعبير. أعلن في احد هذه المحاور أن أهم ما قرأ في ذلك العام رواية اوليسس للكاتب الايرلندي جيمس جويس. يعتبر جيمس جويس في ذلك الزمن رمزا للكتابة الروائية الحديثة. رواياته من النوع المعقد. اطلق عليها النقاد (تيار الوعي). كان لزاما على كل من يعتقد انه مثقف أن يقرأ مؤلفات هذا الكاتب. عقدة عند العرب والأمريكان أيضا. حاولت أن أقراها وبذلت جهودا كبيرة دون أن أحس بالمتعة. كان تصريح الناقد الكبير مهماً بالنسبة لي. فرصة أن التقي بشخص قرأها واستمتع بها. أكيد سيدلني على أسرار جمالها وتقنية تتبع المتعة فيها. وجهت له عدة أسئلة من خلال قراءتي لها وطلبت منه أن يتابع معي تطور الشخصية. بدأ الرجل يتكلم في العموميات. أسئلتي محددة لا تحتمل التلاعب أو المراوغة. في البداية كانت نيتي حسنة وبريئة ولكن عندما أحسست أن الرجل يحاول أن يأخذ الموضوع يميان وشمالا انقلب هدفي إلى تحقيق غير مباشر. تأكدت بعد عدة أسئلة أن الرجل لا يعرف عن الرواية إلا ما قرأه عنها في الصحف والمجلات. بعد عدة جلسات أخرى تأكدت أن الرجل لا يملك أي خبرة في قراءة الروايات، ولا حتى الروايات الشهيرة التي يقرأها الرجل العادي. اكتشفت حينها أن هناك علاقة طردية بين الطهبلة وبين الزيف. كلما تضخمت الكلمات والمصطلحات التي يستخدمها الكاتب كشفت عن مزيد من الزيف. وكل عام وأنتم بخير.