هانحن نعيش سنة أخرى من سنوات الخير والرخاء بميزانية قياسية تعد الأضخم في تاريخ ميزانيات الدولة وبإيرادات فاقت حتى توقعات المتفائلين؛ مما يعيد تأكيد متانة وقوة الاقتصاد السعودي وقوة مركزه المالي عالمياً ليتواصل العطاء وتستمر الإنجازات.. وكان أجمل ما في إعلان الميزانية هذا العام إطلالة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز وترؤسه لجلسة مجلس الوزراء الاستثنائية بعد شفائه، وحديثه الأبوي الذي يفيض عاطفة ومودة ومحبة لبلده وشعبه. لقد كانت كلماته المخلصة تفيض إخلاصاً وحباً لشعب بادله الحب والوفاء.. وأكثر ما يلفت في كلماته - حفظه الله - تأكيده لجميع الوزراء بأنه لا عذر لهم بعد اليوم وأنه لن يقبل التقصير من أي واحد منهم، فميزانية الخير حملت المشروعات الكبرى، والاعتمادات التي طالب بها الوزراء لخدمة قطاعاتهم، ففعلاً لا عذر لهم في التقصير، مؤكداً على ضرورة إيضاح ما لديهم من مشروعات وبرامج لجميع المواطنين. ومن الواضح أن هذه الميزانية بما حملته من بشائر خير ونمو هدفها دعم جميع مسارات التنمية التي تأتي استكمالاً لما حققته المملكة من إنجازات وبرامج تنموية ومشروعات خدمية أسهمت في بناء وتطوير جميع مناطق المملكة وحققت تنمية متوازنة لكل منطقة على نحو يحقق خدمة الوطن والارتقاء بمستوى المواطن الاقتصادي والتعليمي والصحي والاجتماعي وفقاً لما أقرته خطط التنمية الخمسية للدولة. ولاشك أن ميزانية الخير هذه تأتي امتداداً للميزانيات السابقة التي تجسد حرص الدولة على توفير فرص التعليم ورفع مستوى الرعاية الصحية والاجتماعية وتوفير فرص التدريب والتأهيل والعمل والاستثمار في البُنى التحتية. وفي نظرة تحليلية سريعة للميزانية نجد فيها إشارات الى عدة معايير مهمة وحيوية تتضمن النقاط التالية: - المواطن هو الأساس في كل ما يتم إقراره من خطط وبرامج ومشروعات وخدمات، فالهدف تحقيق رفاهيته وخدمته. - تنويع مصادر الدخل من أهم الأولويات التي تؤكد عليها ميزانيات وخطط الدولة، وهذه الميزانية على وجه الخصوص. - بناء الانسان وتحقيق التنمية البشرية.. ونجد ذلك واضحاً في زيادة مخصصات التعليم بنسبة تجاوزت 20% لتصل الى أكثر من مئتي مليار ريال، فالمتأمل في تفاصيل ميزانية الخير يلحظ تركيزها على الاستثمار في تنمية الإنسان، وهو ما نلمسه بجلاء في الاهتمام بقطاع التعليم الذي حظي بدعم كبير سواء في مجال التعليم العام أو العالي، فالمشروعات المدرسية تزداد عاماً بعد آخر، ومشروع تطوير التعليم نراه يقدم الكثير من البرامج والأفكار الهادفة الى تطوير البيئة التعليمية والتعامل مع التغييرات المتجددة. وفي التعليم العالي ارتفع عدد الجامعات الى 34 جامعة، واستمر دعم برنامج خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز للابتعاث الخارجي الذي هيأ الفرصة لأكثر من 150 ألف مبتعث ومبتعثة يتلقون تعليمهم في أكثر من 28 دولة. - استكمال تشييد البنى الأساسية وتعزيز البنية التحتية بشكل متسارع للوصول الى التنمية المتوازنة وزيادة المخصصات للمشروعات التنموية لتصل الى 285 ملياراً للتعليم و36 ملياراً للخدمات البلدية و65 ملياراً للنقل والمواصلات و225 ملياراً للبرامج والمشروعات الجديدة. مما يتطلب معه تكاتف الجميع لتنفيذ هذه المشروعات دون تأخير وبأعلى درجات الكفاءة والجودة. - تخفيض الدين العام.. فبعد أن كان يصل الى 600 مليار قبل سنوات قليلة فقط هاهو ينخفض الى أدنى مستوى له ليصل الى 98 ملياراً فقط معظمه مرتبط بحقوق داخلية وليس ديوناً خارجية. - أن الإنفاق الحكومي المتزايد سيؤدي بلا شك إلى توفير فرص عمل أكبر وفي مجالات متعددة لأبناء وبنات الوطن مما سيسهم في الحد من معدلات البطالة. - تحقيق التوازن بين ما يصرف على المشروعات الحالية وتوفير ما يمكن أن يحقق الأمان لأجيال المستقبل، مما يعني الاستخدام الرشيد للموارد المالية. وهنا يبرز سؤال جوهري حول المقصود بتحقيق التوازن وكيف يمكن تحقيق الاستفادة الكاملة منه؟، بمعنى، هل سينعكس هذا التوازن الذي أشارت اليه ميزانية الخير لهذا العام على المواطن العادي وخاصة جيل الشباب والأجيال القادمة مما سيوفر لهم فرص العمل المناسبة التي تتفق مع تخصصاتهم والمسكن الميسر الذي يعد من أهم عوامل استقرار الفرد والأسرة؟ أعتقد أن المقصود بتحقيق التوازن الذي أشارت اليه الميزانية أو الذي ينبغي أن يكون هو التفكير جدياً برسم المستقبل للأجيال القادمة التي تزداد أعدادها، وترتفع احتياجاتها. نحن نعيش اليوم وبحمد الله في بحبوحة من العيش وبدخل مرتفع وضعنا في مصاف الدول ذات التنمية المتقدمة، ولكن ماذا عن الأجيال القادمة؟ ليس عيباً أن يكون معظم الدخل حالياً يأتي من مصدر واحد وهو البترول، ولكن العيب أن نستمر في الاعتماد عليه دون تفكير في مجالات أخرى مبتكرة تتوافق مع ما يتوفر لدينا من إمكانيات بشرية وطبيعية. هناك تهديدات وتغييرات مستقبلية ربما تحيل النفط للمرتبة الثانية أو الثالثة في الأولويات العالمية، ويكفينا كجرس إنذار ما صرح به الرئيس اوباما قبل أسابيع عن إمكانية استغناء أمريكا عن استيراد النفط، فماذا نحن فاعلون؟ قطعا لا أحد يريد لهذه المشروعات الاستثنائية الكبرى أن تتوقف بسبب عدم وجود اعتمادات مالية لصيانتها، ولا نريد لأبنائنا الذي نعموا بالتعليم المجاني والعناية الصحية المجانية أن يعودوا للدفع على الخدمات التي يحصلون عليها مع شح في الموارد. إن التحدي المستقبلي لهذا الوطن الغالي لا يتمثل فقط في المحافظة على النمو الاقتصادي، ولكن في تحقيق البناء المعرفي لأجيال المستقبل، والسعي منذ الآن ومن هذا العام وبعد انخفاض الدين العام لأدنى مستوى له والذي من المتوقع مع العام القادم واستمرار النمو في ارقام الميزانية أن يكون هناك فائض جيد أن يخصص هذا الفائض ليكون ضماناً للأجيال القادمة إما على شكل احتياطي عام أو استثمارات متنوعة تدر دخلاً ثابتاً ينمو مع السنين. ولن تعدم وزارة الاقتصاد والتخطيط والمجلس الاقتصادي الأعلى ووزارة المالية من إيجاد وسائل تساعد على تحويل هذه الطموحات الملحة الى استراتيجية متكاملة تحفظ لأبنائنا مستقبلهم وتحافظ على مكتساباتهم التي تحققت في الخمسين سنة الماضية وبالتالي تنعكس على وحدة وطنهم الغالي.