لا شك في أن الشاعر الكبير الأستاذ أحمد بن صالح الصالح (مسافر) أحد الرواد الكبار في كتابة القصيدة المعاصرة بشروطها وخصائصها وتحولات الأداء فيها.. ولا ريب في أنه أحد المؤسسين الحقيقيين لمرحلة الحداثة الشعرية لدينا، وبخاصة في المنطقة الوسطى. ولا جدال حول أنه من عباقرة الشعرية العربية، عرفنا من خلاله ومن نصوصه المتجاوزة سمات القصيدة العربية الجديدة، قبل أن نتمكن - نحن الجيل الذي جئنا من بعده - من الاطلاع على تجارب كل من: نزار قباني، ومحمود درويش، وأمل دنقل، ومعين بسيسو، وسميح القاسم، وتوفيق زياد، وموسى شعيب وسواهم.. في حين ربطنا هذا المبدع الآسر بتجارب حقيقية سابقة مثل تجربة (أبي القاسم الشابي) وتجربة (حمد الحجّي). أقول: لاشك، ولا ريب، ولا جدال..؛ لذلك سوف أتجاوز مثل هذه المقدمات والمداخل، وأسجل في هذه المناسبة الجميلة كيف تتلمذت وبحب وإعجاب على مدرسة هذا الرائد الجليل (مسافر).. بدءا سوف أحدد فترة ذلك التتلمذ وتلك المتابعة فهي تلك السنوات الأربع الاستثنائية الذهبية فيما يخصني وتقع بين عام 1391ه وعام 1394ه.. في هذه السنوات المذهلة - أيضاً فيما يخصني - عشت أربع تجليات مثرية لم أعش مثلها حتى الآن وهي: - مطلع احتفالي بموهبتي الأدبية نثراً وشعراً.. - بدء مرحلتي الجامعية في كلية اللغة العربية. - ابتهاجي وانفعالي وتفاعلي بالملحق الثقافي الأدبي الذي كان يصدر عن جريدة الرياض كل خميس ويشرف عليه المبدع الرائد الكبير (عبدالله الماجد)، ويكتب فيه: حمد القاضي، وفهد العرابي الحارثي، ومحمود حامد، وثابت بداري، وعبدالرحيم نصار، وعلوي طه الصافي وسواهم. - برنامج (مواهب شابة) الذي كان يذاع من البرنامج العام وشاركت فيه بمجموعة من بداياتي آنذاك: من إعداد (إسماعيل كتكت) وتقديم (محمود عواد). أعود تحديداً إلى الملحق الثقافي في جريدة الرياض، فمن خلاله كنت أتابع أستاذنا، شاعرنا الفنان (أحمد الصالح) (مسافر) وكنت أسجل أعماله التي تنشر في الملحق، أسجلها بخط يدي في مذكرتي الثقافية الخاصة احتفاء وإعجاباً وتأثراً بنصوص الشاعر المتجاوزة.. فقد سجلت له في تاريخ 16-5-1391ه القصيدة الآتية: وله الغربة يَضجُّ مقعدُك المحظوظُ في وَلَهٍ يستعذبُ الدِّفء تستهويه دنياك وفي جمالكِ طَرْفي شاءَ رِحلتَهُ تشدُّه في دلال الحسنُ عيناكِ إذا تلفتِّ أشبعتِ العيونَ رضا وإن تشاغلتِ قلبُ الود يرعاكِ يا فتنتني: شاعر يهديك غربته في نضبه رقصت بالحب نجواكِ غناك في قلبه فالأرض عاشقة وفي جوانحه تغفو حناياكِ يا أنت حسنُك كالموال أسكرني قصائدي احتفلتْ نشوى بذكراكِ حفرتُ في أضلعي للحب مُتَّكأً زرعتُ في شفتي أحلى حكاياكِ دخلتِ في رحلتي طيفاً طربتُ له أبحرتِ بي عاشقاً تهفو لمرساكِ صغيرتي: ترقص الساعاتُ مثقلةً بفرحتي فاملئي قلبي بلقياكِ وسجلت له في 24-10-1391ه قصيدة (هوامش على اللقاء الأول) ومنها: ويحملني الشوقُ فوق المُحالِ إلى دفءِ قلب وذكرى عُمُرْ عبرنا إليه دروب المحبة ملء السّماع وملء البصر فجاء اللقاء الذي ضمّني إلى ليل عينيك أحلى خَبَر وهذه قصيدة (تتساءلين) في 18-12-1391ه: تتساءلين عن الهوى في أحرفي وعن احتراق الآهِ بين ضلوعي عن جرح قلبي عن جنون زوابعي عن رحلة الأحزان عبر دموعي تتساءلين وأنت بين جوانحي قلب يضج بثورتي وولوعي ليلاي: تَرْشَحُ بالعاب مَفَاصلي يطوي الزمان قصائدي وربيعي أغرقت في بحر الضياع زوارقي وخنقتُ في ليل الظنون شموعي إني أخافُ عليكِ سوءَ مطالعي وضلال حبي وانتفاضة جوعي وهكذا.. كان من أجمل عوامل إثراء الملحق الأدبي آنذاك مثل هذه النصوص الثرية.. حقيقة لا جدال حولها أن هناك أسماء أخرى أسهمت في إشعال روح المتابعة والإبداع وحرضت على التجاوز مثل الأستاذ الشاعر (سعد الحميدين) والأستاذ الشاعر (عبدالرحمن يوسف الدبيان)، غير أن الأستاذ الفنان (أحمد الصالح) استطاع بجمال أدائه وغنائيته التي وفت بشروط الإبداع الجديد أن يردم تلك الهوة الواسعة بين ثقافة التراث القديم وبين الواقع الشعري الجديد في الوطن العربي الذي هبّت رياحه وآذنت بعهد ثري من الشعر وطريقة الأداء ومعمارية الكتابة المعاصرة. ومن هنا لا أخفي أبداً أن الشاعر الكبير (أحمد الصالح) (مسافر) قد أشاع بروحه المتجددة في كتابة القصيدة في الجيل الذي جاء من بعده الشروط الحقيقية في كتابة النص الشعري الجديد ويمكن هنا أن أختم هذه المكاشفة بهذه القصيدة التي لا أحلى ولا أجمل.. سجّلتُها له في 17-2-1393ه وهي بعنوان: (من لوح الذكريات الراعفة) في ثواني لقائنا كان قلبي بين كفيك خاشع الكبرياءِ الحروف التي تغنّيك حبّي أزهرتْ في تناغمات الحِدَاءِ طاب هذا المساء لا تُنْكريهِ كان أشهى قصائدي وغنائي ملءُ عينيك فتنة أسكرتني حاذري أن يكون فيها شقائي هذه أنت؟! يالطيب لقاءٍ!! باركي كل ساعة في مسائي أنت حبي الذي تعلمت منه حبَّ نفسي وطاعة الأتقياء لا تطيلي صمت الهوى هدهديني أرفض الصمت في عيونِ النساءِ.. أيقظي بؤبؤيك شوقاً لجوجاً أشعلي كل نبضة في دمائي ليس أحلى من العيون اللواتي تمنح الدفء كانسراب الضّياءِ شئتِ هذا اللقا فجئتُ إليهِ وعلى خطوتي مشت خيلائي هذا وتمتلئ مذكراتي الجامعية من قصائد شاعرنا الرائد مثل: (عزبة الأهداب) و(طائري المذبوح) و(عمر من الحب) و(حزني العاشق) و(لا تذبحي فرحي) وغيرها.. ومن هنا.. لا مناص من الاعتراف وبفخر واعتزاز بأني - وهذا كذلك يخصُّني - قد تتلمذت على شعرية أستاذنا الكبير (أحمد الصالح) (مسافر) واستفدتُ كثيراً من تجربته الشعرية التي كانت وما زالت وستظل طول عمره المديد بإذن الله مشعلاً متوهجاً بالتجدد والتجاوز والإضافة، وهو شاعر كفء ويحمل شروط الإبداع الحقيقي في ذاته وتكوينه، وإذا أضفنا إلى ذلك سيرته العطرة وأخلاقه ومثاليته، وعزوفه عن كثير مما يغري رُصَغَاءَهُ ومجايليه.. فقد اكتملتْ شروطه الإنسانية التي نحتفي بها جميعاً في شخصيته الفريدة. كتبه/ عبدالله بن عبدالرحمن الزيد - الرياض