ما أروع أن يكون الإيمان عامراً في الصدور، تبوح به القلوب والتعاملات، وتكشفه تلك الممارسات السلوكية الصادقة في حميميتها، وتصالحاتها، وتقاربها مع الآخرين، وحبها للناس، كل الناس دون إصدار أحكام مسبقة عليهم، واتخاذ مواقف إقصائية منهم، ومحاكمتهم على النوايا أو من خلال المظاهر، أو نوعية قراءاتهم وثقافاتهم وآرائهم في الحياة واهتماماتهم المعرفية ومصادر وعيهم الفكري. ما أبهج أن يكون الإنسان قريباً من الآخرين، جاذباً لهم عبر تأصيل ثقافة التسامح والحب والود وافتراض النوايا الحسنة في العلاقة والروابط والسلوك، وأن يكون الإيمان مجسداً في الممارسات التي تتسم بالبساطة والعفوية والتلقائية والحميمية، وليس في التباهي بالإيمان، ومحاولة إظهاره في المشهد الحياتي، أو نوعية الملبس أو تصنّع الورع لإخفاء التعالي على الآخرين ورفضهم ومصادرة حرياتهم الشخصية، وقمع أفكارهم والتعامل معهم كتابعين هامشيين عبر وصاية فكرية وحياتية تسلب منهم عقولهم، والعمل بما توحيه وتفهمه وتستنتجه. في أزمنة مضت وقد عشنا في القرى والأرياف كان الإيمان هناك كما في فضاء المدن الاجتماعي راسخاً في القلوب، يمارس بخفر وحياء جميلين رائعين، وكان المقدس محفوظاً في الصدور، ملهماً للممارسة الحياتية أخلاقياً وتقارباً مع الناس، واقتراباً من الله، وكان الناس، كلّ الناس، في غير ما حاجة إلى التدليس والمواربة والالتباس في التعامل مع الدين ومع المجتمع لأن الإيمان في العرف والثقافة والأصل ليس مباهاة وانتهازية ووصولية ونفعية وتطلعاً نحو مركز اجتماعي، أو تميزاً يدر مالاً، ويهب ثراء، ويعطي تعاملاً خاصا في الحياة، وإنما هو، كما هو راسخ في تلك الأزمنة، علاقة مع الله - عز وجل - طلباً لمرضاته وعفوه ومغفرته وتوفيقه، وتصالحاً مع الناس، وكسب محبتهم تأسياً بالإرشاد النبوي "أحب لأخيك ماتحب لنفسك" و"الدين المعاملة" و"المسلم من سلم الناس من لسانه ويده". وكان أكثر الناس فهماً وتطبيقاً لكل هذا من السلوكيات والمفاهيم من يكون لديهم حصيلة فقهية، وتراكم ثقافي ديني يحصنهم عن منزلقات غواية الوجاهة والتميز والسلطة على الناس كي لا نقول التسلط والعدوان على حقوقهم وخصوصياتهم التي كفلها لهم الإسلام في أنقى صورة، وكما مارسها الرجل العظيم ابن الخطاب - رضي الله عنه - وعاشها الغفاري في تجلياته العلائقية مع الإيمان. في الأسبوع الماضي كنتُ واحداً من كثر لبوا دعوة لافتتاح مركز الملك عبدالله لحوار الأديان والثقافات في العاصمة النمساوية "فيينا" وكانت الأطياف والنخب متواجدة من رجال دين، ومثقفين، وأكاديميين، وإعلاميين، وكتاب رأي، ومنتجي ثقافة ووعي وتنوير.. وطوال الرحلة حاولت أن أقرأ الامتداد السلوكي والمسلكي بين رجل دين تعرفنا عليه في أزمنة مضت، وعايشنا مفاهيمه وتصالحاته مع المجتمع وقربه من الناس، وبين حاضرنا الذي يفهم البعض أن الصرامة والحدة والاستعلاء هي ما يبرر تواجدهم، ويمنحهم المكانة والقيمة، ومع أن الجميع من المشايخ كانوا في تواجد مبهج وجميل، وحضور تعاملي وحواريّ رائع، إلا أن رجلين فاضلين أحسب أنهما من بقية السلف الصالح، ومن يُقتدى بهما سلوكاً وممارسة ووعياً وفهماً طغَيا على المشهد، وأسرا الآخرين من رفقاء الرحلة بتواضعهما وفكرهما وتصالحهما مع نفسيهما ومع المحيط الواسع، وأعادا لي مشهد الإيمان في الصدور وفي القلوب. تحية حب إلى الشيخ صالح بن عواد المغامسي، والشيخ عبدالرحمن بن معلا اللويحق..