يحكى أن مزارعاً قروياً كتب له أن يسافر إلى العاصمة وهو صغير، وذلك لإنهاء مهمة خاصة لوالده، فدهش لما رأى وشاهد وسمع فيها، ثم انتهت المهمة بعد يومين، ولكنها لم تنته من عقل صاحبنا كذكريات جميلة يقصها ويعيدها ثم ينقص منها ويزيد عليها ثم يرددها في كل مجلس ومع كل ضيف، وكانت الناس تتحمل تلك القصة المكرورة والذكريات المملولة، ولكن زوجته المسكينة هي الضحية الحقيقية لهذا التكرار الممل خصوصاً إذا ما أراد أن يبهر تلك الذكريات ويزيد من تمليحها وتنكيهها بالقصص الرومانسية التي كان فيها هو البطل ومعذب العذارى، ليثير غيرة زوجته التي عرفت انه كاذب لوقوعه في التناقض بين قصة وأخرى، وطال صبر الزوجة بطول الحياة كلها حتى شارف زوجها على السبعين وهو مايزال يقول لها: يا الله، ماأجمل ذكريات الماضي، ذكرتيني بأيام سفرتي إلى العاصمة... ثم يبدأ قصته التي لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد!!.. والحقيقة ان تكليف النفس فوق وسعها من الظلم، فماذنب هذا المزارع القروي إذا لم يكن له من الذكريات الجميلة التي يحب أن يشارك الناس فيها إلا هذان اليومان فقط، فهو بالتأكيد غير ملوم من هذه الناحية، ولكنه من ناحية أخرى يلام أشد اللوم، فهو لم يصنع لنفسه ذكريات ولا قام بالمغامرات ولا أجهد نفسه بالسفر والترحال، وكثيرون هم أمثال هذا الرجل ممن تقاعس وانكمش وتقوقع على نفسه داخل تلك الصناديق الاسمنتية والتي نسميها مجازفة بالغرف، فيها منامه وأكله وهاتفه وتلفازه وكمبيوتره حتى يتعب ظهره وتحرقه عيناه ثم يعود للنوم من جديد، فمن أين بالله تأتي الذكريات، أم يظن هذا المسكين ان مايقصه على أصحابه من قصص الأفلام والمسلسلات التي يشاهدها انها هي الذكريات التي ستبقى معه طوال عمره، لا.. أبداً، فالذكريات شأنها عظيم وهي نعمة من الخالق الكريم، فمن فوائدها أن تتجمع تلك المواقف والخبرات والمشاهد والمسامع والأحداث في الدماغ، ليقوم هو بعد ذلك بدور التحليل والدراسة والاستفادة بطريقة الصح والخطأ، ثم ينفتق عن هذا المخزن العظيم مايعرف بالعلم والدراية عن طريق التجربة والخبرة، إضافة إلى ما تدخله الذكريات على النفس من متعة وسرور وحبور.. والإنسان منا إذا لم يكن مقداماً على المغامرات والترحال والتنقل والسفر إلى البرية مع أطفاله وأسرته وأهله، وإذا لم يكن ممن يصطنع المفاجآت والمناسبات، وإذا لم يكن ممن يتكرم باستضافة العزائم والولائم والسهرات للاجتماعات العائلية، وإذا لم يكن ممن يبتكر الأفكار التجديدية للاحتفال بالأعياد بدل هذا الرتم المملول من أفراح العيد ومراسمه وطقوسه العزائية وابتساماته التمثيلية، إذا كان يظن ان الذكريات الجميلة تصنع نفسها بنفسها فهو يحلم بلا شك، فرحم الله زمناً مضى كانت ذكريات العيد فيه وفرحته وضحكاته تخرج من القلب إلى القلب، ورحم الله زماناً مضى كنا نتلذذ فيه بالرحلات مع والدي ووالدتي رحمهما الله إلى مكة والمدينة والطائف وأبها ولبنان، ورحم الله زماناً كانت والدتي تجمعنا على مأدبة مميزة كل يوم جمعة تتحفنا فيها بالهدايا والمفاجآت، وشكراً لاخواني وأخواتي الذين أغرقونا بالكرم والمفاجآت والابتكارات حتى صنعوا لنا ذكريات جميلة تصحو معنا حين ننام، وتسامرنا حين نسهر حتى الصباح، فنشم رائحتها ونتطعم طعمها رغم مرور السنين والأعوام، شكراً لكل من صنع لنا أو علمنا كيف نصنع لأنفسنا ذكريات جميلة نجتر حلواتها طوال أعمارنا وفي شبابنا وشيبتنا، وسوف نتذاكرها برحمة الله عندما يكرمنا ربنا بالجنة فنضحك لذلك ونسر به، اللهم آمين، وعلى دروب الخير نلتقي..