تتفاوت قدرة البشر على العطاء والإنتاج في أي شأن من شؤون الحياة، فالبعض من الناس تكون قدرته على العطاء في المجال الذي يُمارسه قصيرة ومحدودة جداً ويكون تأثير ما يقدمه ضعيفاً وغير واضح للعيان، في حين يكون عطاء البعض مُتدفقاً ومستمراً وذا تأثير كبير وملموس، وبين أولئك وهؤلاء نقابل نماذج لأشخاص يبدعون خلال أعمارهم القصيرة ما يعجز عن إبداعه الجماعة من البشر خلال سنوات حياتهم المديدة، ويمكن التمثيل على هذا الأمر في الجانب الأدبي الشعري بطرفة بن العبد وأبي تمام وأبي القاسم الشابي وغيرهم من الشعراء المبدعين الذين كان مرورهم في الحياة سريعاً وخاطفاً لكن بصماتهم ظلت راسخة لا يمحوها الزمن. ما يُميز صاحب الموهبة الأدبية المتميزة هو قدرته على الإنتاج والإبداع من مرحلة مبكرة في حياته ومواصلة ذلك الإنتاج لعقود طويلة وحتى آخر يوم من حياته، فالشاعر المبدع لا يمكن أن يفقد صلاحيته وقدرته على الإبداع إلا في حالة واحدة فقط وهي انعدام وجود الباعث الذي يحرضه على نظم الشعر، وقد أشار الشاعر إبراهيم الغزّي في أبيات جميلة إلى البواعث التي افتقد بافتقادها الرغبة في نظم الشعر فقال: قالوا هجرتَ الشعر قلتُ ضرورةً بابُ الدواعي والبواعثِ مُغلقُ خلتِ الديارُ فلا كريمٌ يُرتجى منهُ النوال ولا مَليحٌ يُعشقُ يشير الشاعر بوضوح إلى افتقاد باعثين مهمين يفتحان له ولكثير من الشعراء غيره باب الشعر وهما: (المليح) المعشوق و(الكريم) المرجو نواله، وللشاعر ناصر الحارثي أيضاً قصيدة رائعة تتقاطع مع أبيات الغزي في مسألة هجر الشعر بسبب غياب دواعي أو بواعث النظم، يقول الحارثي في مُستهلها: عدت سنه ما ركب في هامة الراس بيتٍ ليا قلته يعدّل مزاجي وأنا كذا لا صابني ضيق وعماس ألقى بترديد الجزايل علاجي ثم يشرح الشاعر لمن يلومه على هجر الشعر أسباب الهجر والمقاطعة موضحاً بأنه في حاجة ماسة للشعر لأن علاقته به كعلاقة الأرض بالمطر، لكن داعي الإبداع الشعري لديه هو التعبير عن معاناته ومشاعره الداخلية وهو ما يدفعه للاستمرار في الكتابة: يلومني ليه البطا نايد الناس ايحسّب إن الشعر بالسهل ياجي ما يدري إن عندي للإبداع مقياس مانيب أوردها على الماء الهماجي الشعر يحيي بي معاليق يبّاس مثل المطر يحيي هشيم الفجاجي لا صرت ما ارسم به معاناة الإحساس أقاطعه وأعلن عليه احتجاجي أحيان مالي خلق وأحيان منحاس وأحيان جوّي فيه مثل العجاجي هذه الأبيات والتي سبقتها تؤكد على مسألة هامة وهي أن الشعر ليس سلعة استهلاكية يتم توفيرها بمجرد الطلب، إنما هو عملية إبداعية تحتاج لبواعث ومحفزات خارجية وداخلية تحرض الشاعر على الكتابة والإبداع، وحين تنعدم تلك البواعث تنتهي صلاحية الشاعر ويصبح جميع ما يكتبه شبيهاً بالكلام العادي الذي لا يترك أي أثر في القلوب. أخيراً يقول المبدع مشعل الزعبي: فاضت دموع عيني بعد ما الصبر فاض وامتلا ليلي آهات وقصيد وحبر صح مالي على أقدار الإله اعتراض بس مالي على فرقا الأحبه صبر