يصر الكثير على تمرير عنصرية الأحساب والأنساب، لأنها تبقي لهم مايعزون به أنفسهم من مخلفات الجاهلية العربية المرتبطة بالتعصب للذات وازدراء الآخر، والازدراء عنصرية بغيضة عبر عن كراهيتها رسول الله عليه الصلاة السلام وربى على ذلك أصحابه، فعاتب أبا ذرٍ لأنه عيّر بلالاً بأمه «بابن السوداء»، قائلاً: «إنك امرؤ فيه جاهلية كراهبة في معبد السؤال جادت طفولتي، شقاوتي ميدان شك يطوف بعفوية متلمساً راحة الإجابات، دائمة التفكر حول ماهية الأمور وحقيقتها، وظواهر الأمور وتناقضاتها، أقيم المحاكمات، أعقد المقارنات، وأعيش صراع الانفصام بين القيم والواقع، قيم العدالة والمساواة وواقع العنصرية والظلم والازدراء، ربما هو أمر سيئ أو جيد أنني يوماً لم أكن طفلة ساذجة، وربما أن حاجات الطفولة المهمّشة فتحت أمامي- إكراهاً لا اختياراً- أجواء محاكمة الكبار، طفلة لاتهاب المشي فوق ألغام العادات، تدوس عليها بجرأة المنعتق من أجوائها التقليدية إلى فضاء الإنسانية الرحب، فيه أشرع ساحة التساؤل وميدان الشك موجهي، أسائل الحجج وأدافع في محراب السؤال عن حس الطفولة النقي حيث الحق في لجة الأمواج كلما مدّ بالخير جزرت الأباطيل.. في ميداني الطفولي الصاخب بالصدق، أسئلة تتوه خلف إما؛ التجهيل حيث السؤال بحد ذاته جريمة تقيم خلف قلق الراحة، وإما التعتيم حيث لا مجال لامرئ يفكر فضلاً عن أن يعترض أو حتى يبادر بحوار يهب القلق منفذ الشرعية الإنسانية، ولأن الأنسنة ميدان مثالي في مجتمع ينام على توجيهات المسلّمات ويصحو على حراستها، فقد كان التوجه للمساءلة الدينية باباً يجب طرقه لتفهم العادات الناضحة بالتعصب وأحقية تربعها على أولوية الموروث المقدس عن المساءلة، فهناك ماء الحياة الحائر في دروبه المردومة بخزعبلات التراث وأفانين أباطيله ينتظر جرأة السؤال الكاشف الصادق لينساب فيضه. منذ الطفولة تربعنا على عرش التكافؤية ليست القرآنية إنما التكافؤية صاحبة الأعراب الأشد كفراً ونفاقاً، كما وصفهم القرآن، طالت أسئلة طفولتي القلقة عرش التكافؤ اللاإنساني، فسألت والدي "رحمه الله" هل الناس متساوون جميعاً؟ فرد: نعم ، قلت لماذا "الخضيري" إذاً لا يتزوج من"القبيلي"؟؟ لازالت طفولتي تسأل عن حق حرية التزوج ولم يخطر ببالها التفريق لأجلها، وكمن وخز في مسلّم ردّ عليّ" هذي عاداتنا"، قلت: لكن الله يقول! "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، فهل الدين نتبع أم العادات؟ استنكر والدي ولا أدري هل راعه صراحة السؤال الباحث في رحابة الطفولة عن القيمة التأكيدية للمساواة القرآنية، أم رأى في السؤال خروجاً عن شرعية الأسئلة المحدودة بإطار العادات القافزة فوق الدين وفوق الإنسان، واستنكر ابتدارها من طفلة في مرحلة الابتدائية الأولى، طبعاً لم يعجب والدي محتوى الحوار، فراح ينقل همّ إلحاح السؤال إلى أجواء المزاح - كونه يرى أمامه طفلة تتسلق قامة الأب بحثاً عن جواب يشفي وهج المعرفة القابع خلف طفولتها الوثابة للقيم، ليضيء ظلمة التعتيم المعرفي حول أباطيله المغلفة بغلاف الجمود المترهل؛ ولتكن أي إجابة تنزع ثوب المساندة التكافؤية.. قال لي مازحاً "يا بنتي تبغين تتزوجين خضيري"، هكذا بسهولة قضى على لوعة السؤال بنقله من الجد إلى الهزل، بادرت كمن يدفع تهمة عن طفولته: لا ولكني فقط أتساءل، ظللت ألح بطهر سؤالي لمعرفة تنبش القاع "معرفة ابستمولوجية" لتزعج الأجواء" القناعات والواقع": ولكن لماذا نحن نسمَّى قبيلي وهم خضيري، "نبتة التعصب تقسمنا إلى :نحن، وهم"، قال لي: هكذا فقط. لم يعجبني الجواب فلم أسكت، وشجعني استعداده للحوار حول التأصيل بالاستمرار، قلت: طيب ما معنى خضيري؟: قال يعني لا أصل له، كيف؟ قال لاينتمي لقبيلة، فصدمت إجاباته بقولي: إذاً من أين أتى؟؟! نزل من السماء؟! بهت والدي.. سكت، وقناعاته ربما إن هزتها طفلة لكن ثباتها بأطناب العادات وأعراف الخصوصية القبلية راسخٌ كالجبال.. كبرتُ وتغيرت أنماط الحياة، ولازالت البنى الذهنية تمارس تغييب السؤال واستحقاقاته النقدية بغية التغيير والإصلاح، ولا زال البعض يفرق بين المرء وزوجه لأجل تكافؤ النسب ويمنع الزواج بسببه، والحالات كثيرة وإن كشف الإعلام عن قليل من تعديها، فالحقوق تتماس وتختلط في البلدان ذات الخصوصية مع العادات، لتسجل النهايات لمصلحة الأشد رسوخاً واستبداداً(=العادات).. أعود لحواري مع والدي: وهل الرجل إذا اختار الزواج من أجنبية تفتشون عن أصلها وقبيلتها؟؟ رد: لا، لكن الرجل له إن أصر أن يتزوج أجنبية، قلت: طبعاً والبنت لا، أجاب: طبعاً، لا أستغرب فدوائر التمييز أسباب ونتائج لبعضها البعض، أما الأصل العنصري فقائم في عمق بنيته بين ركنيْ الإنسانية؛ الرجل والمرأة، ومنه تتناسل العنصريات الجاهلية وتصنع الدوائر الأخرى المغلقة على قناعاتها الملتبسة بالدين.. تظل الأنثى هي من يتحمل العبء؛ حتى خرافة تكافؤ النسب، فالرجل له حق الاختيار، وله إن ألح التزوج بمن يختار، والمرأة محرومة من حقها في تزويج نفسها بمن شاءت، رغم مخالفة ذلك لحديث صحيح يؤكد حق المرأة في اختيار زوجها؛ حديث المرأة التي قالت للرسول عليه الصلاة والسلام "إنما أردت أن أبين للنساء أن ليس للآباء من الأمر شيء" وأقرها الرسول على ذلك، ولأزلية القيم المنبثقة من خيرية الإنسان فإن وثيقة السيداو في مادتها 16 تنص على حق مساواة المرأة بالرجل في حق الزواج، "السيداو" هنا أتراها خالفت الدين أم العادات؟!! الجواب لن يغير الأمور ولكنه يواجه وجاهة القناعات خلف انحيازاتنا ورفضنا، ويقابل بها كذب مقاصدنا. رأي والدي في خرافة تكافؤ النسب المزدوجة الحكم مدعومٌ من التراث، فقد اعتبر الفقهاء أن "الكفاءة في جانب الرجال للنساء ولا تعتبر من جانب النساء للرجال لأن المرأة الشريفة تأبى أن تكون فراشاً للدنيء، ولأن الولد يتشرف بشرف أبيه لا بشرف أمه، والزوج الشريف لا يعيّر إذا كانت زوجته خسيسة".. منطق عنصري ضد المرأة وظف توظيفين لصالح الرجل متى أراد خسيسة "التعبير لمشاكلة اللفظ لا للقناعة"، وثانياً الضغط على المرأة لتعكس لهذا الشريف شرفه الموهوم، بينما هو يفرض اختياره؛ شريفة كانت أو خسيسة!!، أما لماذا يقبل أن يكون فراشاً للخسيسة فمنطقنا المعوج كعادته لتحقيق التماهي الذكوري! ألفاظ الدنيء والخسيسة ألا تحتاج لإعادة تأسيس مدلولي يترفع بإنسان اليوم عن وقاحة نبزها ولمزها ؟! طبعاً؛ والدي لم يضع تلك العبارات اللاإنسانية في أوراق التراث الصفراء، لكنه مثلي صحا على وجودها، وستصحو أجيال أخرى لاتملك خياراً إزاء قداسة رجالها وأقوالهم، رغم ماتنضح به من قبح وعفن مدلولاتها المنزهة عن النقد والخروج. يصر الكثير على تمرير عنصرية الأحساب والأنساب، لأنها تبقي لهم مايعزون به أنفسهم من مخلفات الجاهلية العربية المرتبطة بالتعصب للذات وازدراء الآخر، والازدراء عنصرية بغيضة عبر عن كراهيتها رسول الله عليه الصلاة السلام وربى على ذلك أصحابه، فعاتب أبا ذرٍ لأنه عيّر بلالاً بأمه "بابن السوداء"، قائلاً: "إنك امرؤ فيه جاهلية"فندم واستغفر، وطرح رأسه في طريق بلال واضعاً خده على التراب.. وقال: والله يا بلال لا أرفع خدي عن التراب حتى تطأه برجلك..أنت الكريم وأنا المهان.. وعندما امتنع أخو زينب بنت جحش من تزويجها لزيد، لنسبها من قريش وأنها بنت عمة الرسول صلى الله عليه وسلم ولأن زيداً كان عبداً نزلت آية "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله..." الآية فقال أخوها للرسول عليه الصلاة والسلام مرني بما شئت وزوجها لزيد.. صراع العنصرية الجاهلية يحسمه أصحاب محمد بالقيم القرآنية الناصة على أن الكفاءة لاتعتبر في الأحساب.. إنما بتمثل الأخلاق والقيم. سئل الإمام علي عليه السلام عن حكم زواج الأكفاء فقال "الناس بعضهم أكفاء بعض عربيهم وعجميهم، قرشيهم وهاشميهم إذا أسلموا وآمنوا" وهو مذهب المالكية وابن القيم وابن تيمية.. سيلحق مقال آخر عن آراء الفقهاء قديما وحديثاً حول كفاءة النسب الجاهلية في مقال قادم. لا يفوتني أن أعترف - بكل فخر- أن عنوان مقالي هذا مأخوذ من مقال للكاتب التنويري والمفكر المتميز الزميل محمد المحمود بعنوان "الطائفية من الاستغفال إلى الاستغلال"، تحدث فيه عن كل أنواع العنصرية أصلها، منبتها ودوائرها المتسعة بتفكيك يحمل في رسالته هم الأنسنة، الأنسنة حيث الصفاء والعيش الكريم في أجواء العدل والمساواة، والتجلي بالتخلي والإعراض عن مواطن الكراهية والازدراء.. دعانا الكاتب فيه "للتأملْ في واقعنا اليومي، في واقع انتماءاتنا وما يرافقها من ولاءات وعداوات، وإطالة النظر في متن وتصور التعصب العام الذي تتناسل من خلاله دوائر التعصب إلى مالا نهاية، ومن ثم دوائر النبذ والكراهية والإقصاء، فالمتعصب دينياً هو المتعصب طائفياً وهو أيضاً المتعصب فقهياً، وهو "ذاته المؤمن بخرافة تكافؤ النسب، بل والمتعصب لكل أشكال التعنصر القبلي"ويرى المسألة "تركيبة ثقافية سيكيولوجية يجب تفكيكها بالكامل، وتناولها على كل المستويات، وفي كل الميادين" لأنها "دوائر يفضي بعضها لبعض". ليس للتعصب الجالب للكراهية أو الازدراء أو لكليهما ميزة؛ إلا أن يحسب الكِبر على مكارم الأخلاق أو يعدُّ من نبيل الصفات.. والمؤمن بمحاكمة ولاءاته سيدرك أن العنصرية من أي دائرة كانت هي مجال للتحدي مع الذات.. تحدٍّ جدير بتخطيها.. لبلوغ درجة أعلى من الأنسنة.. أليس كذلك؟