إن غلو الإنسان جعله ينقض على ما بنت يداه ويهدم ما ورثه عن أجداده، وهي الخسارة بعينها حينما يكون التراث المادي للثقافات معرضاً لهاوية الضياع والمحو عن الوجود والغياب عن الشهادة لابد أن أقول إننا نحن العرب في منطقة تعاني من "سقوط ثقافي" وتاريخي غير مسبوق، الحروب الداخلية تدمر هذا التراث والحراك الاجتماعي لا يبالي بموروثنا الثقافي والعمراني ولا يعطيه أي اعتبار، فبينما العالم كله ينظر بقلق لما يحدث في سوريا وآثارها العمرانية الخالدة التي تمثل شواهد مادية مهمة للتاريخ العربي/الاسلامي نجد أن العالم العربي كله لا يعير الموضوع أي اهتمام، أنه سقوط ثقافي حقيقي، فنحن لا نتعلم من التاريخ ولا نعمل من أجل المستقبل. مؤخرًا اتصل بي بعض الزملاء من مناطق مختلفة في العالم العربي وبعضهم مقيم في الخارج وطلبوا أن نقوم بإصدار بيان معماري يطالب بوقف تدمير التراث المعماري في سوريا وفي كل مكان في العالم العربي سواء كان هذا التدمير نتيجة لحرب داخلية أو موقف ثقافي وديني. يجب أن أؤكد هنا أننا هنا في جريدة "الرياض" نبهنا في مقال بعنوان "الحروب الداخلية وتدمير التراث الإسلامي" (السبت 17 شعبان 1433 ه - 7 يوليو 2012م - العدد 16084)، كما حاول بعض الزملاء (وعلى رأسهم الزميلان الدكتور علي ثوني والدكتور جمال القواسمي) في أكثر من مكان التنبيه وإثارة الموضوع لكنه حتى الآن لم يصل الزخم إلى القنوات الاعلامية المؤثرة ولم يصدر اي بيان سياسي يبين أهمية تراثنا لأجيال المستقبل. هذا التجاهل شجع الزملاء لإصدار "بيان ثقافي" بعنوان " بيان لمجموعة من المعماريين ودعوة من أجل وقف التخريب الجاري على التراث المعماري والعمراني في سوريا" وينص البيان على أنه: "بالرغم من إيماننا بأن الإنسان أولى وأبدى من الحيطان وأن البنيان يبدأ منه وينتهي عنده ومن أجله، لكن ذلك لايشفع لإهمال جانب مهم من عبثية المشهد الإنساني الذي شذ عن المخلوقات حينما سعى برعونة الى تصفية نوعه، وبصفاقة إلى إبادة أقرانه، وبنزق إلى إحراق ممتلكاته، فلجأ إلى الحروب حلًا لإشكالياته وخصوماته، وتفريغاً لضغائنه وأحقاده، وإعلاناً صريحاً عن أنانيته وما فطر عليه من ميل للامتلاك والاستحواذ، وما غرر به من خيلاء وتفاخر وغرور. حتى تناحر الفرقاء وعجزوا عن إمضاء عقد اجتماعي، يضمن تنازل كل منهم عن جزء من جشعه وطمعه وأنانيته. وأصبح الكل يشكو من إجحاف وغبن وأحقية وأفضيلة. إن غلو الإنسان جعله ينقض على ما بنت يداه ويهدم ما ورثه عن أجداده، وهي الخسارة بعينها حينما يكون التراث المادي للثقافات معرضاً لهاوية الضياع والمحو عن الوجود والغياب عن الشهادة، بعدما أمسى المكان المشاد، مسرحاً للتفجير والتدمير. فما فتئنا نرى كل يوم مشهد المدن التي بنيت خلال مئة او ألف أو آلاف الأعوام وهي تحترق وتتحول إلى أنقاض بعد لحظات، ويتداعى منتج الدهور من حجر ومدر إلى هيكل متفحم يغمه الكدر، ليبدأ رحلة الدرس والنسيان. يختلق الإنسان الأسباب فالحروب أنواع ومبررات ودعاوى وتظلمات وخدع ويتأتى الخراب الأعظم خلال الاحتلالات كما في فلسطين والعراق، أو خلال حروب الأخوة داخل البيت المديني المشترك، بما يدعوه (الحروب الأهلية)، والتي دفعنا ثمنها غاليا في لبنان (1976-92) ، ثم العراق (2005-2008) ومازالت آثارهما، وخرب من جرائها عاصمتان عربيتان هما بيروت وبغداد، ثم بالأمس حدث الأمر في طرابلس وبنغازي، ثم انتقلت اليوم لدمشق وحماة وحلب. فأمست الشوارع متاريس والأحياء وكتل البناء فواصل ومزاغل، تتبع المتحاربين في التقدم والتقهقر، فينخر الجدري محيا الجدران، ويقطع الطاعون أوصال المدن وتضع الفواصل بين الكانتونات والكيتوات، فيمنع التواصل وتجف أسباب العيش المشترك، ويهجر الناس ويعم الخراب. لقد عادت الحروب دائما العمارة والتراث المادي، من خلال فعلها المعاكس لمنطق الإيواء والحماية للإنسان التي وجدت من اجلها العمارة. وعانت الحواضر والمدن، فالاحتلال اختصها أكثر من الأرض الخلاء، بل أصبح البنيان والحيطان متاريس لحماية المُهاجِم والمُهاجَم. فيصبح الوجود على المحك وتطفح الغرائز ويسود الرعب، ويتفشى اليأس ويعم الإحباط ويرى الإنسان كيف وظف التقدم العلمي والتقني والحضاري صوب خرابه وفنائه، ويحول دون كل جميل وبهي وذكرى. أما الخاسر الأكبر في ذلك الهوس فهو التراث المعماري، الذي لايلوى في الدفاع عن نفسه لوهنه أمام آلة الخراب ووسائل الدمار. ويبقى تراثنا المعماري ما ورثناه من الأجداد في صورة منجزات شاخصة، ويندرج في إطار التراث الثقافي العالمي الذي يعد ذاكرة الأمم ووسيلة التمايز الداحضة للتنابز، بعدما جمع بين القيمة الروحية والمادية للمنجز الإنساني. والموروث المعماري الإسلامي، يشكل الشاهد المادي والملموس على تاريخ الإسلام وسمو أدائه الحضاري. فمن خلال مقابلته للآخر، فإنه يجسد الهوية، ويشكل دعما معنوياً لمشروع أي نهضة ترنو لها أي أمة. وهنا نرفع صوتنا عالياً، نحن لفيف المعماريين والشغوفين بالمنجز التراثي ضد ما جرى ويجري، بعدما فجرت الحرب الشعواء جسد سورية العربية المسلمة، والأمر يتعلق بثقافتنا العربية والإسلامية وتراثنا الألفي المشترك الذي يعد أحد علامات الموروث الإنساني الشامل، فقد عم الخراب في مدنها الماكثة، حتى وطأ مرحلة كارثية. فهذه حلب الشهباء تصبح سوداء من سخام الحرائق، وهذا البازار(السوق) الذي مكث محط رواد خط الحرير لآلاف السنين، يصبح أنقاضاً وعرضة للإزالة. وهكذا فإن الثقافة العربية وميراث الإسلام المادي يدمر ولم نجد من يفتي بحرمته من سلطات أو وجهات دينية، ولم تتورع النخب المثقفة بالمبادرة والإعلان عن امتعاضها عما يحصل. ومازالت عجلة التخريب دائرة، يطال الإنسان والبنيان على حد سواء. ولابد لنا في مأساوية الصورة إلا الرفض التام والاستنكار لما يحدث دون الانحياز لجهة محاربة ضد أخرى، ولابد من موقف صارم يصدر ميثاق شرف ملزم، يجبر المتطاحنين أن يتركوا المدن وموئل التراث الحضري يرتع بسلام ليمكث مثلما كان ملكاً للأجيال، دون أن يحتكره فرد أو فئة أو جماعة أو جيل أو سلطة. ففي الوقت الذي نعلن امتعاضنا ورفضنا لما يجري، ندعو الأطراف المتحاربة إلى ترك مراكز المدن التراثية، وإيجاد أماكن برية يمارسون بها نزعاتهم ورغباتهم. فلندعو لذلك مخلصين من أجل درء مهازل مايحدث وحماية العمران من المساس والضياع". ربما يكون هذا البيان هو الأول على المستوى العمراني الذي يصدر من معماريين عرب شعروا بالمسؤولية نحو وطنهم الكبير، لكننا يجب أن نعي ان البيان يجب أن يكون صوتا جماهيرياً، فالتراث هو ملك للأجيال القادمة وهو الدليل المادي على أننا كنا هنا وأنه كانت لنا حضارة عظيمة والتفريط في هذا التراث يعد "جريمة" بحق التاريخ وبحق المستقبل العربي، الدعوة صادقة والأمل كبير.