أفهم عندما كنا طلبة أو كانت حياة العمل الأولى تسمح لنا - أي أبناء جيلي - بسماع الأغنيات ،غالباً من الراديو ثم من التلفزيون في وقت متأخر أن نسخر ونستغرب كيف كان الناس يتذوقون أغاني حضيري أبوعزيز أو الدراجي أو محمد زويد أو ضاحي بن الوليد أمام تلك الخيالات الحالمة التي كانت تغنيها فيروز أو نجاة الصغيرة أو وردة أو أم كلثوم أو عبدالوهاب أو عبدالحليم حافظ أو فريد الأطرش أو.. أو.. لكن لا أستطيع أن أفهم كيف غابت الأغنية التي كانت تعتمد على جزالة الكلمات وخيالها الشعري واختلافها اللحني، وفوجئنا وكأننا قد انتقلنا إلى كوكب آخر بأغنيات ليس مهماً فيها اللحن ولا الكلمات ولا اللبس المحتشم الذي كانت تظهر فيه المطربة، وأن المطرب لا ترافقه إلا الفرقة الموسيقية ،وإنما تركز على التعري للمطربة ،والألحان متشابهة ،والكلمات دعوات صارخة نحو الجنس ،ولسنا نرى المطرب عندما يغني ،ولكننا نرى فرق شبه تعر راقصة هي التي تقدم لنا أغنية المطرب السخيف الأداء ،والمطمور بسيقان وصدور الراقصات.. هل هذا طرب.. هل هو فن؟.. لقد اختفى ذلك الأداء الفني المتميز وحلت محله هذه الاستباحات البذيئة في عيون المراهقين الذين سيكون من أحلام كل منهم أن يكون مستقبلاً مثل هذه أو ذاك.. هذا النوع من الأداء لم يعد فناً ولكنه تجارة يكسب فيها من يؤدي الأغنية، وتكسب المحطة الفضائية الموغلة في رصد هذا التفسخ المزيد من الإعلانات التي تكوّن ميزانيتها.. ربما يحتار كثيرون في الوصول إلى حل يوقف هذه النار التي أصبحت تحرق الأخلاقيات حيث لم يعد يجد من يريد تحطيم سلوكيات المجتمعات المحافظة أي عجز في غزوها مادام يتوفر مثل هذا التحريض على تهميش الأداء كمضمون فني وتحليق رومانسي تتذوقه لدى نجاة الصغيرة في أغنية(شكل تاني)، أو أم كلثوم في أغنية(الأطلال)، وغيرهما من مطربي ومطربات الملابس الكاملة والفرق الموسيقية.. اعتقد ان الحل ميسور وسهل لو أرادت الأجهزة الحكومية في الدول المعنية أن توقف هذا الانحدار وذلك بوضع ضوابط للإعلان يأتي في مقدمتها حظر التعامل إعلانياً مع أي قناة فضائية تعرض مثل هذا الإسفاف، ولا استثني أحداً اللهم إلا محمد عبده وعدداً قليلاً جداً جداً معه.. فلو شعرت هذه المحطات أن الحضور الإعلاني سوف يغيب متى حضر هذا الابتذال الفني الموجه إلى تحريك الغرائز وليس المشاعر، فإنها حتماً سوف تتوقف عن دعم هذا الابتذال وتتجه إلى ما هو جاد وإيجابي مقبول في مضمونه الفني..