لم يكن نقاد فرنسا الأدبيون يتوقعون أن يفرض كاتب شاب سويسري يدعى " جويل ديكير" نفسه عليهم في بضعة أسابيع وعلى قراء الأدب الفرنسي وعلى أعضاء لجان تحكيم جوائز موسم الخريف الأدبية بسرعة جنونية. فقبل الصيف الماضي قليلون هو الذين كانوا يعرفون ديكير من بين هؤلاء النقاد والقراء وأعضاء لجان التحكيم. أما الأسباب التي تكمن وراء ذلك فهي كثيرة من أهمها أن هذا الشاب السويسري المتحدر من أسرة لديها جذور فرنسية وروسية لا يتجاوز عمره السابعة والعشرين وأن رصيده الأدبي الوحيد في عالم الرواية نشر في يناير هذا العام. وكان يفترض أن ينشر قبل عامين أي العام الذي أنهى فيها دراسته الجامعية في الحقوق في بلاده من قبل داري نشر إحداهما سويسرية والأخرى فرنسية. ولكن صاحب الدار السويسرية مات بين سويسرا وفرنسا بينما كان في الطريق إلى باريس للتوقيع على عقد النشر المشترك بين الدارين. فتأخر نشر الرواية التي صيغ عنوانها على الشكل التالي : " أيام آبائنا الأخيرة". وفيها يتوقف جويل ديكير عند أحد فروع جهاز المخابرات البريطانية السرية يعود له الفضل في تدريب عدد من المقاومين الفرنسيين ضد المحتل النازي خلال فترة الحرب العالمية الثانية. وبالرغم من هذه الرواية قد كرمت في أكثر من مكان في سويسرا وفرنسا ،فإن غالبية مكرميها يظلون منتمين إلى مؤسسات لديها علاقة بالذاكرة العسكرية وبذاكرة المقاومة ضد المحتل النازي أكثر من انتمائهم إلى مؤسسات متخصصة بشكل أو بآخر في تقويم الأعمال الإبداعية الأدبية . ولكن رواية جويل ديكير الثانية قلبت رأسا على عقب هذه الصورة . عوالم متشابكة وعنوان رواية الكاتب السويسري الثانية هو : " الحقيقة حول قضية هاري كيبرت". وقد نزلت إلى الأسواق في النصف الثاني من شهر سبتمبر الماضي. وصدرت عن دار " دو فالوا" الفرنسية . وسرعان ما بيع منها أكثر من خمسة وثلاثين ألف نسخة. ويعد هذا المعدل في رقم مبيعات الروايات الصادرة باللغة الفرنسية لكتاب غير معروفين في فرنسا حدثا هاما في مجال النشر أكده معرض برلين الدولي للكتاب في دورته الأخيرة. فقد اشترى ناشرون غير فرنسيين في بلدان كثيرة حقوق إصدار الرواية بلغات أخرى . وفي الأسبوع الماضي حصلت هذا الرواية منذ الدورة الأولى على جائزة "الأكاديمية العسكرية" الأدبية السنوية إحدى أهم جزائز موسم الخريف الأدبي الفرنسي. وتتصل وقائع هذه الرواية بعوالم تربط بينها عوالم متشابكة من خلال شخصية كاتب شاب موهوب وطموح يدعى ماركوس غولدمان ويجد نفسه يوما ما عاجزا عن التقدم بخصوص مشروع عمل أدبي اتفق مع دار نشر في نيويورك على إنجازه بسرعة وفقا لعقد أبرم بين الطرفين. ويجد هذا الكاتب نفسه في الوقت ذاته مضطرا إلى طرح كل مشاريعه جانبا للوقوف إلى جانب صديقه هاري كيبرت الذي اتهم عام ألفين وثمانية بقتل مراهقة في الخامسة عشرة قبل ثلاثين عاما خلت. وفي خضم التحقيق الذي يجريه الكاتب الشاب عن ماضي صديقه على خلفية قناعة لديه بأنه براء من التهمة الموجهة إليه يطرح على نفسه أسئلة كثرة حول طبيعة العلاقات في المجتمع الأمريكي بين العدالة والعمل السياسي ووسائل الإعلام. وينتهي إلى قناعة مفادها أن هذا التحقيق الذي يضيع في متاهاته هو الإطار الذي ينبغي أن يبنى عليه مشروع العمل الأدبي الذي عجز من قبل عن تنفيذه. ويتضح من الطريقة التي كتب من خلالها جويل ديكير روايته الثانية التي أحرزت جائزة الأكاديمية الفرنسية هذا العام والتي احتفظ بها لعرضها في إطار التصفيات المؤهلة لجوائز أدبية فرنسية أخرى منها جائزتا " جونكور" و" فيمينا" أن الكاتب الشاب أراد من خلال هذه الرواية مثلا محو الحدود بين الأجناس الأدبية . فقارئ الرواية يعثر فيها على حبكة الروايات البوليسية بامتياز وطعم الكتابة الإبداعية الراقية. بل إن الكاتب ذهب إلى القول خلال أحاديثه لوسائل الإعلام الفرنسية إنه كتب هذا العمل الإبداعي قبل كل شيء لتكريم كثير من المواقع والمشاهد التي شدت انتباهه في الولاياتالمتحدة التي عاش فيها لبعض الوقت. . كما قال الكاتب السويسري الشاب إنه سعى عبر عمله الجديد إلى نقل فكرة انعدام الحدود بين هواياته إلى عوالم الإبداع. وفي الرواية نتلمس مثلا إحساسا مرهفا بالنسبة إلى الطبيعة وإلى الإيقاعات الموسيقية. وعندما نطلع على سيرة الكاتب الذاتية نهتدي بيسر إلى سبب ذلك. فجويل كان شغوفا بالموسيقى منذ صغر سنه. وعلاقته بالطبيعة والكتابة تعود أيضا إلى طفولته . ففي العاشرة من عمره أطلق مجلة عن الحيوان ظل محافظا على الكتابة فيها لمدة سبع سنوات مما جعله يحصل وهو في السابعة عشرة من عمره على جائزة أفضل رئيس تحرير سويسري شاب . ديكير دمٌ جديد في جسد الكتابة باللغة الفرنسية وروحها ديكير محوطا بأعضاء لجنة جائزة الأكاديمية الفرنسية الأدبية