خفيفةٌ أيّامنا وخفيف قدَرُنا. في خِفَّةِ الفراشة شيءٌ من التوازن الذي تستوي عليه الأرض. *** يتململ الجسد ويتخبَّط بدون جدوى قبل أن يستكين. تعرف الطريدة أنّ الصيّاد الذي يلاحقها هو جزء من حياتها. *** العبيد هم الذين بنوا أميركا، لكنّ العبودية لم تولد على أرضها. لقد جاءت مع مجاري الأنهر ومياه المحيطات، وفي عروق البشر. أهرامات مصر بناها العبيد أيضاً. لا بدّ من عبيد لبناء الحضارات الإنسانية. لا بدّ من حروب ودماء. قد نجد في الفنّ بعض العزاء، لكن ماذا لو كانت كلّ تحفة فنية تتكئ هي أيضاً على جريمة وعلى آلام عظيمة؟ كأن ليكون الجمال ينبغي أن تُراق دماء كثيرة. *** تمثال الحرية يرفع يده عالياً. تنبعث من حوله روائح الهواء الساخن الآتية من إسطبلات تحتشد فيها الحيوانات التائهة والمهيّأة للذبح. يتّجه بخار الليل نحو الفضاء الأبعد ويظنّ المهاجرون الذين لفظتهم أوطانهم كما يلفظ البحر أسماكه الميتة أنّ ذراع الحرية ترتفع لتستقبلهم. أولئك القادمون من كلّ مكان، الباحثون عن ملجأ ومأوى، الحالمون بمصائر أخرى وأسماء أخرى. هل اليد التي تحمل الشعلة تحيّي الوافدين إلى القارّة الجديدة، أم تستغيث؟ أم أنّها المنارة تقتفي أثر الدماء الجارية من قارّة إلى قارّة؟ *** أُنثاهُ في الأعالي، تنظر إليه ويصبح مُلكَ عينيها. حاملة الكأس، المقيمة في نظر الذي يرى كلّ شيء، تقرأ صمته وتملأ الفراغ بين دقّات قلبه. *** نأتي مسرعين ونمضي مسرعين مثل النيازك الضاحكة في أعلى الفضاء، لكن من قال إنّ هذا العبور السريع لا ينطوي على شيء من الأبديّة؟ *** في أقصى حدود الألم يُطبق الجسد وتُغلَق المنافذ. الألم العظيم يعلو على الصوت والصراخ. يصبح المتألِّم أقوى من جروحه والمقتول أعلى من موته. الحالم بولادة جديدة يعطي قلبه ويمضي أبعد من نفسه. *** البحرُ أمواج. كلُّ موجةٍ تشربُ من ماءِ سواها. هكذا بطنُ المرأة. *** جاء عن اليونيسيف أنّ الأشهر التسعة التي يعيشها ملايين الأطفال في العالم الثالث داخل بطون أمّهاتهم هي الأشهر الوحيدة التي يمضونها بسلام، طوال حياتهم. *** لو لم تكن غريزة الحياة أقوى من غريزة الخوف من الموت لما كانت المرأة تُنجِب. *** يقول لنا الفنّ إننا قادرون على فعل شيء آخر غير الحرب. يقول التّوقَ إلى الاتساع وتصديق ما لا يصدَّق وملاقاة عين الآخر في البرهة الأجمل. *** لا قاع للمرآة التي تشير إلى مرور الكائنات والأشياء ولا تحتفظ بها. تتركها تعبر. وربما هذا ما يخيف المرأة فيها أكثر مما يخيف الرجل. في هذه اللوحة، لا تتسع المرآة لشيء آخر غير الوجه، وهي له لا للأعضاء، على الرغم من جمال تلك الأعضاء وتناسقها. كأنّ الوجوه هي المكان الذي يفضّل فيه الوقت أن يستوطن. هناك يحلو له أن يقيم. أما الجسد الغاوي فيغيب كما تغيب أجمل الغيوم في السماء. *** ما بال الذين يتناوبون اليوم، الواحد بعد الآخر، على منبر الرخام الأخضر في الجمعيّة العامّة؟ ماذا يقول الخطاب الذي يُنقَل فوراً إلى اللغات الرسميّة الستّ، ثمّ إلى جميع اللغات، لكن ما نفع اللغات كلّها حين لا تتمكّن ولا كلمة واحدة من إزاحة هذا الرّكام؟ *** لا يبارح النور مكانه حتى حين يحلّ الظلام. يمسي الظلام غطاء له. للوهج الذي لا يخبو. تلك الفسيفساء لا تنتظر نوراً لكي تشتعل. *** صراع الإنسان مع شبيهه يختلف عن صراعه مع الحيوان. يقتل الإنسان شبيهه ولا يأكله، بينما يقتل الحيوان ويأكله، وفي الحالتَين يسعى إلى التخلّص من موته. *** نبحث عن الجمال في ركام الأشياء حولنا مثلما يبحث الفقراء في نفايات الأثرياء، في ساعة متأخرة من الليل. *** أربعة وأربعون عاماً فقط، أي العمر الذي تعي فيه المرأة أنّ استدارة قمرها قد اكتملت وأنّ الحبّ الذي ينتظرها من الآن فصاعداً إنّما يتفتّح في حقول بعيدة لا خشية فيها مما سوف يأتي. *** هل نحسد الحيوان على جلاء هيئته ووضوحه؟ كيف يمكن أن نميّز إنساناً عن إنسان آخر انطلاقاً من مظهره الخارجي فقط؟ كيف نفرّق بين القاتل والقتيل؟ القاتل الذي بيننا، وقد يكون في داخلنا، نطعمه ويطعمنا، يفرح لفرحنا ويحزن لأحزاننا. يتودّد وينصب لنا الفخاخ في آن واحد. *** ما الفائدة من أنجم السماء؟ يتساءل سجينُ الأرض. ما الفائدة من الأنوار البعيدة التي تعجز عن نجدتنا؟ *** الحبّ مصدرُ النار التي تتحايل على الموت، المكانُ الذي يعيش فيه العدد الأكبر من النجوم، البحيرةُ الساكنة في أعلى المساء تراقبنا من بعيد. الحبّ حديقة أوهام ينبغي الاعتناء بها. *** لا يكفي المرأة - لكي تكونَ امرأة - أن تمتلك أعضاءَ الأنثى، ولا تكفيها غريزة النسل. *** سيتعرّف البشر يوماً إلى لغة الشطآن وهي تروي أسرار الكون. عندئذ سيتخلّون عن لغاتهم ويقتفون أثرَ الموج. *** ضفّتا النهر كضفّتَي كتاب والطائر البعيد يرسم، برحيلِه، الآفاقَ البعيدة. الذاهبون وراء تلك الآفاق يدركون أخيراً أنّ ما أخافهم طوال حياتهم ليس مخيفاً على الإطلاق. *** يكمن سرّ الطبيعة في عينَي القاتل أكثر مما هو في الزهرة المتفتِّحة أوّل الصباح. *** في المساء، يُقفلُ متحف "لاكاديميا" في البندقية. تُطفأُ الأضواءُ على لوحة جيورجيوني. اللوحةُ في الظلام. يرفُّ جفنُ العذراءِ التي تدركُ أنّ وليدَها سيموت. تُخرجُ له ثديَها. *** يُنهي الطائر يومَه الأخير ويرتفع فوق أجنحته. بيضاء ذكرياتُنا الضائعة، غيومُ الصيف ذَهَبُنا المنثور في الهواء. *** هناك شيء ضائع منذ البداية، نبحث عنه ونعرف مسبقاً أنّنا لن نجده، لكنّنا سنظلّ نبحث عنه حتى لا نزداد ضياعاً. * مقاطع من كتاب صدر للمؤلف بعنوان "مدينة في السماء"