تعزز اجراءات السلطات في الكويت والبحرين، لتطويق التوتر السنّي – الشيعي المتصاعد، الاعتقاد بأن مرحلة جديدة من الصراع المذهبي في المشرق العربي قد بدأت. وبعد العراق ولبنان راحت ريح الفتنة تهب على دول اعتقدت حكوماتها انها وأدت الآفة هذه منذ زمن طويل. لكن الشرخ المذهبي يستفحل ويحمل في احشائه نذر حروب مديدة. وإذا نحّينا جانباً التأثيرات الخارجية من تحريض وتمويل بغية التوظيف في مهمات متنوعة، على رغم حضورها الدائم، صحّ طرح السؤال عن سبب يقظة الانقسام السنّي- الشيعي داخل المجتمعات العربية الآن. وبعد التشديد على الفوارق الكبيرة في الحالات المختلفة بين دولة وأخرى، وعلى تعدد الدوافع وراء جولات الاقتتال القديمة، منذ حادثة سقيفة بني ساعدة مروراً بسيطرة الدولة البويهية على بغداد والحروب العثمانية – الفارسية، وصولاً إلى أبي درع وأبي مصعب الزرقاوي كتعبيرين معاصرين متطرفين لكنهما غير حصريين عن الانقسام المذهبي الاسلامي، يتعين الانتباه إلى نضوج عوامل مشتركة جعلت الفالقين الجيولوجيين السنّي والشيعي يتحركان نحو الصدام. ولعل انطونيو غرامشي ما زال افضل دارس لآليات الهيمنة في مجتمع متعدد ثقافياً. وباستعارة حذرة لتشخيصه وضع الحركات المعارضة خصوصا في الجنوب الإيطالي بعد الحرب العالمية الأولى، يمكن عقد مقارنة مع ما تشهده منطقة المشرق العربي وربما ما ينتظرها في السنوات المقبلة. يرى غرامشي أن الطبقة الثورية تخوض في المجتمعات المتعددة وبعد تشكل وعيها بذاتها «حرب مواقع» تقتضي منها السيطرة على المجتمع المدني كمقدمة ضرورية لنزع الهيمنة الرأسمالية سياسياً واقتصادياً وثقافياً. انشاء المؤسسات البديلة، التربوية (بالمعنى الواسع اي المؤسسات التي تعنى بشؤون التعليم والأخرى التي تتولى التعبئة والحشد) والثقافية (تشجيع الفنون الثورية) والاجتماعية (الاهتمام بترويج الزيجات خارج أطر الهيئات الدينية الموالية للسلطة) وخصوصا الاعلامية، من المهمات التي يتيعن ايلاؤها اهتماماً كبيراً. الانتقال من «حرب المواقع» إلى «حرب المناورة» يتم عند انجاز الهيمنة الثقافية على المجتمع، أو في الحالات التي تكون فيها همينة السلطة قد بلغت درجة عالية من التفكك. وعلى رغم عدم جدة اللجوء إلى مقولات غرامشي لتفسير الواقع الطائفي خصوصا في لبنان، ومع ضرورة الانتباه إلى الاختلاف في وضع ما يشير غرامشيي اليه ب»المجتمع المدني» وبين احوال المجتمعات العربية، يمكن القول ان المرور من حرب المواقع إلى حرب المناورة التي بدأت، جاء ليكرس تغير ظروف الطائفتين السنّية والشيعية في المشرق. وغني عن البيان أن غرامشي نظر إلى حالة ايطاليا بين الحربين العالميتين وعمل على تشريح دور الكنيسة الكاثوليكية والبورجوازية المتحالفة معها في تأمين سيطرة رأس المال. ومع بعض التعديل، يمكن اقامة متوازيات بين العناصر هذه وبين مكونات الحاضر العربي. فقد منح نهوض إيران قوة إقليمية مؤثرة، بعد سنوات من التعثر وإعادة البناء إثر انتهاء الحرب مع العراق، الشيعة العرب مبرراً واضحاً لحشد القوى وصوغ المطالب في وجه مؤسسات الدولة العربية الراكدة. وعلى رغم اتخاذ الحراك الشيعي في العديد من المواقع شكل الصدام مع الطائفة السنّية، سواء من خلال التعبيرات المذهبية الفجة على نحو ما جرى في الكويت أو تشكيل شبكات ومجموعات لا تستثني العنف من أدوات نشاطها كما في البحرين، إلا أن محرك الاعتراض الشيعي يقبع في تقاعس الدول العربية عن اللحاق بدينامية التغيرات الاقليمية والداخلية، السياسية والديموغرافية سواء بسواء. وشكلت الطائفة السنّية عضد الدول العربية المشرقية، لأسباب كثيرة منها انتماء اجزاء واسعة من السنّة العرب (خارج الخليج) إلى قبائل هجرت مواطنها الأصلية واندثر، تالياً، رابطها القبلي الذي حل مكانه الانتماء إلى الدولة ومؤسساتها، أكانت عربية أو عثمانية أو «وطنية». لكن الطائفة هذه تتحمل، بصفتها حجر البناء الأهم في الدولة العربية المعاصرة، المسؤولية الأولى في تجاهل المساعي الى تجديد بنى السلطة والسياسة. ففي دولة لم تختف منها المكونات الطائفية والجهوية والقبلية تؤدي الأكثرية العددية دور المقرر للوجهة السياسية والاجتماعية والثقافية العامة. وحال الركود العربي في المجالات كافة، يتيح ارتفاع اصوات تستهدف جمود الأكثرية، بحجج وذرائع لا تعوزها الوجاهة. وإذا اخذنا الحالتين الاكثر التهاباً في المشرق اليوم، أي العراق ولبنان، لظهر أن الأزمتين تعبران عن قصور النظامين السياسيين في البلدين عن معالجة تطلعات فئات واسعة من السكان. الشيعة العراقيون لا يخفون سعيهم إلى الحصول على «ضمانات» تحول دون تكرار تعرضهم للاضطهاد الذي نال منهم في عهد صدام حسين. لكن عقدة الماضي هذه تصطدم بمخاوف الحاضر عند السنّة الذين يرون انفسهم، للمرة الأولى، في موقع الأقلية المحاصرة والمهددة بالفناء. وبالعودة إلى مصطلحات غرامشي، نقول ان الشيعة لم ينجحوا في تكوين «كتلة تاريخية» تضم احزابهم الكبيرة وحلفاءهم في كردستان العراق من أجل تكريس هيمنة بديلة للهيمنة السابقة، فبدا ان «حرب المناورة» التي شنوها عبر الانتخابات التشريعية جاءت قبل نضوج ظروف التغيير. في لبنان، تفتقر الحركة التي يقودها «حزب الله» إلى عناصر شديدة الأهمية لتتحول إلى حركة تغيير. فإذا قيل إن التفاهم مع «التيار الوطني الحر» يمثل بدايات المجتمع البديل ونواته التي ينبغي تطويرها لتنجح في الاستحواذ على السلطة، تعين التركيز على أن المحتوى الثقافي للتفاهم المذكور شكّله الحزب منفردا بمقولاته عن المقاومة والمشاركة والعداء المعلن والمضمر للدولة اللبنانية، ما يرفع علامات استفهام كبيرة عن حصة التيار الوطني في المضمون هذا وعن تعلقه السابق بمشروع بناء دولة غير طائفية. بيد أن مشكلات ركود الأكثرية العددية وجمود ثقافتها تبقى في منأى عن العلاج، وهذا في ذاته تمهيد لدعاوى النقض (بالضاد) وتعديل صيغ الحكم والسلطة.