ولأن الأمور لا تستبين إلا بمقارنتها بنظائرها، فإن صورة الحروب الطائفية والدينية لن تكتمل إلا باستعراض نماذج مما حملته الساحة الإسلامية منها، بعد أن استعرضنا في الجزء الأول جانباً مما حملته الساحة الغربية في جانبها المسيحي بالذات؛ ولأهمية المسألة بالنسبة لحالتنا الراهنة، فسنتحدث عنها فيما يخص الجانب الإسلامي، من خلال محورين هما: أولاً:محور ملاحقات المفكرين والمثقفين. يذكر ابن الأثير في كتابه:( الكامل في التاريخ)، على هامش أحداث سنة خمسمائة وخمسة وخمسين للهجرة، صوراً من ملاحقة الفلاسفة والمفكرين آنذاك. منها أنه عندما قُبض على أحد القضاة الذين كانوا يشتغلون ب"علوم الأوائل" أمر الوالي بأمواله فأخذت، وبكتبه فأحرقت، فكان مما أحرق منها كتب: الشفاء لابن سينا، وكتب إخوان الصفاء. أما عندما تعرضت أسرة المتصوف الحنبلي عبد القادر الجيلاني للاضطهاد، فقد دهمت دار حفيده عبد السلام بن عبد الوهاب، ووجد فيها كتباً للفلاسفة كتبها بخط يده ورغم محاولته التنصل منها بالإدعاء بأنه لا يؤمن بما فيها، وإنما نسخها للرد عليها إلا أن ذلك لم يشفع له، إذ أحرقت تلك الكتب بأن أقيمت نار عظيمة أمام المسجد الجامع اجتمع حولها العامة والفقهاء في صفوف، فجعل من وُكِّل بإحراق الكتب يرمي بها في النار واحداً تلو الآخر من سطح المسجد، فيما قام آخر بقراءة مضمون الكتب واحداً واحداً وهو يقول:العنوا من كتب هذه الكتب ومن اعتقد ما جاء فيها، فكانت العامة تصيح باللعن، حتى تعدى اللعن إلى الشيخ عبدالقادر نفسه. أما الفتاوى التي توفر السند"الشرعي" لمثل تلك الملاحقات، فكانت إذ ذاك حاضرة ومفصلة على مقاسها. ومن أشهر تلك الفتاوي فتوى ابن الصلاح الشهرزوري المتوفى سنة 634ه التي طالب فيها السلطان بعد أن أكد على أن"الفلسفة أس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزندقة والزيغ"، أن "يدفع عن المسلمين شر هؤلاء المياشيم(يقصد المشتغلين بالفلسفة)، ويخرجهم عن المدارس، ويبعدهم ويعاقب على الاشتغال بفنهم، ويعرض من ظهر منه اعتقاد الفلاسفة على السيف أو الإسلام!". وإذا نحن رواحنا مكاننا في بغداد التي كانت إذ ذاك مسرحاً للفتن واضطهاد المفكرين والحروب الطائفية، فسنجد أن عالماً معتزلياً كبيراً هو أبو علي بن الوليد، شيخ المعتزلة في عصره، قد تعرض للاضطهاد أكثر من مرة، وخاصة على يد العامة المجيَّشين من قبل الفقهاء المتشددين!. فقد هاجمته ثلة من العامة في الثاني عشر من شعبان، من سنة أربعمائة وستة وخمسين للهجرة، فأهانوه وجرحوه في عقر داره. كما هوجم مرة أخرى بعد أربع سنين من تلك الحادثة عندما كان في جامع المنصور لمنعه من التدريس( ربما خوفاً من أن يؤثر سلباً في عقائد الناشئة!). كان ذلك في المشرق، أما في المغرب فرغم توفر جو نسبي من الحرية الفكرية، مقارنة بما كان يحدث حينها بالمشرق من خنق لها، إلا أن الملاحقات لم توفر الفلاسفة والمفكرين الذي خرجوا على الخط الفقهي المالكي، في صورته التقليدية المتزمتة. ولعل أبرز تلك الملاحقات الفكرية تلك التي طالت قاضي القضاة الفيلسوف أبا الوليد بن رشد، سواءً من قبل السلطة الرسمية، أم من قبل العوام الذين يظلون وقوداً سهلاً لنيران الملاحقات الفكرية في كل زمان ومكان، لسهولة استثارة مشاعرهم من قبل المتشددين وأصحاب المشاريع الأيديولوجية، أم من قبل الفقهاء الذين نقدهم - أي ابن رشد - بقوله:" إن ههنا طائفة تشبه العوام من جهة والمجتهدين من جهة، وهم المسمون في زماننا هذا بالفقهاء". لكن يحسن بنا قبل استعراض ما حدث لابن رشد من ملاحقات فكرية، أن نعرج بالذكر على الجو الفقهي الذي كان سائداً في المغرب والأندلس آنذاك. تحدث الحافظ أبو عمر بن عبد البر في كتابه: (جامع بيان العلم وفضله) عن سيطرة فقهاء المالكية المتزمتين على المشهد الثقافي والفكري الأندلسي بقوله:" إنهم أي فقهاء الأندلس والمغرب لا يقيمون علة ولا يعرفون للقول وجها، وحسب أحدهم أن يقول:فيها رواية لفلان، ورواية لفلان، ومن خالف عندهم الرواية التي لا يقف على أصلها وصحة وجهها، فكأنه قد خالف نص الكتاب وثابت السنة، ويجيزون حمل الروايات المتضادة في الحلال والحرام، وذلك خلاف أصل مالك. ولتقصيرهم عن علم أصول مذهبهم، صار أحدهم إذا لقي مخالفاً ممن يقول بقول أبي حنيفة أو الشافعي أو داوود بن علي أو غيرهم من الفقهاء، وخالفه في أصله بقي متحيرا، ولم يكن عنده أكثر من حكاية صاحبه، فقال: هكذا قال فلان وهكذا رُوينا". وهذه شهادة ثمينة من فقيه عاصر الانحطاط الثقافي العربي في أوضح صوره، فلنر أثر ذلك الانحطاط، وأثر ثقافة:قال فلان عن فلان على ملاحقات الفلاسفة والمفكرين!. يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي في: (موسوعة الفلسفة) إن الحملة على ابن رشد أتت بسبب اشتغاله ب"علوم الأوائل" من فلسفة وفلك، واعتنائه بمؤلفات أرسطو. وهي أي الحملات على الفلاسفة والمفكرين ظاهرة طالما تكررت في تاريخ الإسلام، سواء في المشرق والمغرب. ويمكن أن نستدل من الحملة على ابن رشد على ظاهرة قديمة، ولكنها لا تزال معاصرة لنا أشد المعاصرة، إنها ظاهرة اجتزاء العبارات من مقالات الكُتَّاب والمفكرين والروائيين وفصلها عما قبلها، وعما بعدها لاستحلاب "الفتاوى" من عوام المتمذهبين ممن يسمون مجازاً ب"المفتين، وأصحاب الفضيلة" بتكفيرهم وزندقتهم. يذكر الدكتور عبد الرحمن بدوي أن خصوم ابن رشد من الفقهاء أطلعوا الخليفة :يعقوب المنصور بالله على عبارة كتبها ابن رشد في أحد شروحه على أرسطو، يقول فيها: إن كوكب الزهرة أحد الآلهة، وفصلوا العبارة عما تلاها، وأوهموه أن قائلها ابن رشد وأنه لذلك مشرك بالله!. كما أن ابن رشد نفسه قد روى جزءاً مما حدث له من بعض العوام الذي تأثروا بالحملة عليه، يقول - أي ابن رشد - :"أعظم ما طرأ علي في النكبة أني دخلت أنا وولدي عبدالله مسجداً بقرطبة وقد حانت صلاة العصر، فثار لنا بعض(سفلة) العامة فأخرجونا منه!". هكذا يُخرج المتشددون من العوام مسلماً من المسجد، ويمنعونه من أداء الصلاة بحجة الذب عن حياض الدين!. في فصل آخر من فصول معاناته مع الفقهاء المنغلقين في زمانه نجد ابن رشد يقول عنهم وفقاً للدكتور محمد عابد الجابري في كتابه: ( نحن والتراث) ما نصه:" أما آراؤهم أي فقهاء الأندلس وتسلطهم على المدن فهي أكبر أسباب ضياع الفلسفة وانطفاء نورها. وستعلم إذا ما تفحصت الأمر أن أمثال هؤلاء القوم هم الأكثر عدداً في هذه المدن:( الأندلس والعالم الإسلامي عموما)، فإذا نجا أحد من الخلق في هذه المدن، فإنك لن تعدو الحق إذا ما قلت بأن الله قد اصطفاه بعنايته السرمدية". ويقول أيضاً:" وإذا اتفق ونشأ في هذه المدن فيلسوف حقيقي، كان بمنزلة إنسان وقع بين وحوش ضارية، فلا هو قادر على أن يشاركها فسادها!، ولا هو يأمن على نفسه منها. ولذلك فإنه يفضل التوحد ويعيش عيشة المنعزل فيذهب عنه الكمال الأسمى". ثم يشير الجابري إلى أن ابن باجَّة، أول فيلسوف مغربي أندلسي كان قد ألف كتاباً بعنوان:"تدبير المتوحد"، هادفاً منه شرح سيرة الرجل الفاضل في المدينة غير الفاضلة، الذي يكون فيها بمثابة الوردة في حقل من الشوك!. هذه الملاحقات والتهديد بالقتل والتصفية لم تقتصر على المشتغلين بعلوم الأوائل وحدهم، بل تعدتهم إلى الفقهاء الذين حاولوا الخروج من شرنقة الأرثوذكسية الفقهية. فالإمام أبو حنيفة النعمان رحمه الله تعرض لملاحقات مروعة من خصومه التقليديين، حتى دُبِّجت فيه الآثار التي تحذر منه. فقد ذكر الخطيب البغدادي في: (تاريخ بغداد) نتفاً مما دبجه أولئك الفقهاء بحقه، نذكر منها ما يلي:"قال مالك:ما وُلد في الإسلام مولود أضر على أهل الإسلام من أبي حنيفة". وعن عبد الرحمن بن مهدي:ما أعلم في الإسلام فتنة بعد فتنة الدجال أعظم من رأي أبي حنيفة. وعن شريك بن عبدالله قال: لأن يكون في كل حي خمار خير من أن يكون فيه رجل من أصحاب أبي حنيفة. وعن الأوزاعي:عمد أبو حنيفة إلى عرى الإسلام فنقضها عروة عروة". وهنا لا بد من القول إن الأئمة من أمثال مالك وشريك يُجَلون من أن يتلفظوا بتلك الشتائم بحق آحاد الناس، ناهيك عن فضلائهم، ولكن خلَفهم لما ضاقوا ذرعاً بالرأي المخالف، عمدوا إلى تقويل أئمتهم ما لم يقولوه في مخالفيهم. مع العلم أن أبا حنيفة رحمه الله لم يخرج على أصول القرآن أومتواتر السنة حتى تُشن في حقه كل تلك الأوصاف المرعبة. بل كل ذنبه أنه قدم الرأي الناتج من الجدل مع الواقع الاجتماعي بنوازله المتجددة على أخبار الآحاد التي لا تفيد، باتفاق الأصوليين وأهل الحديث إلا الظن. وبعد كل هذا الذي نقرأه في تراثنا من ضيق بالمخالف ورميه بكل نقيصة، هل يحق لنا أن نستغرب عندما نجد من بني جلدتنا من يريد أن يبصق في وجه مخالفه!. ثانياً: محور النزاعات والحروب المذهبية بين الطوائف المختلفة يذكر السيوطي في كتابه: (تاريخ الخلفاء) كيف تجددت الفتن بين السنة والشيعة في بغداد سنة 348ه، فكتب يقول:" اتصلت الفتن بين الشيعة والسنة، فقتل منهم خلق، ووقع حريق كبير في باب الطاق". ونتيجة لذلك الهيجان المذهبي فقد انبرى أنصار الفريقين إلى الكتابة على جدران وأبواب المساجد ما يعبر عن لعن وشتم رموز كلا الطائفتين!. كما يشير السيوطي أيضاً إلى قيام معز الدولة البويهي في السنة التالية بتأسيس أول احتفال رسمي بيوم عاشوراء(ذكرى استشهاد الحسين) ف"ألزم الناس بغلق الأسواق وعلقوا عليها المسوح، وأخرجوا نساء منتشرات الشعور يلطمن في الشوارع ويقمن المآتم على الحسين". كما قام أي معز الدولة بتأسيس ما عرف لاحقاً ب"يوم غدير خم". وإذا كان هذان الاحتفالان بدعاً شيعية، فقد رد عليهم حنابلة بغداد ببدع مضادة، هي وفقاً لجورج طرابيشي في كتابه: (مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام)، "تأسيس عيدين يعقب كل منهما يوم عاشوراء ويوم غدير خم بثمانية أيام: زيارة قبر مصعب بن الزبير ، والاحتفال بيوم الغار!". ويشير طرابيشي في الهامش نقلاً عن:جورج مقدسي إلى أن تلك الأعياد كانت تتطلب"مؤمنين"و"جهازاً تنظيمياً" في آن معا. وفي عام 408ه عادت الفتن فتجددت بين الشيعة والسنة فيما يعرف ب"عام الفتنة الثانية"، وتفاقمت، كما ذكر أبو الفرج بن الجوزي في كتابه: ( المنتظم في تاريخ الملوك والأمم)، حتى عمل أهل القلائين باباً على موضعهم، كما عمل أهل الكرخ باباً على الدقاقين مما يليهم، وقتل الناس على هذين البابين!". ويعلق جورج طرابيشي على تلك الحوادث، بكتابه الآنف الذكر، بقوله:" إذاً فتقليد حواجز الذبح على الهوية في الحرب الأهلية اللبنانية ليس جديداً في تاريخ الممارسات الطائفية". وأزيده من عندي فأقول: إن تقليد الذبح على الاسم فقط ، كما يحصل في العراق الآن، ليس إلا امتداداً لتلك المذابح التي تجري على الهوية المذهبية فقط. فكما أن مجرد ذكر اسم:علي أو الحسين كاف لقتل صاحبه حال مروره في الأحياء السنية العراقية، فإن مجرد ذكر اسم:عمر أو عثمان كاف هو الآخر لإزهاق روح صاحبه حال مروره في الأحياء الشيعية هناك!. (يتبع)