هذان رجلان يعيشان في الرياض منذ سنوات طويلة، وقد جاءا إليها من قرية بسيطة وسكنا في الرياض حيث يعمل أحدهما في مجال الأعمال الحرة، والآخر في وظيفة في إحدى الشركات. وقد عاصرا التغيرات الكثيرة التي مرّ بها الناس والتطوّر الذي حظيت به الرياض خلال الأربعين عامًا الأخيرة، وتابعا التحولات الثقافية التي طرأت على المجتمع وأثرت في سلوك الناس وتفكيرهم. والحقيقة أن لدى هذين الرجلين رصيدًا من المعلومات المفيدة التي يُعبر فيها كل واحد منهما عن رؤيته للعالم من خلال التجارب التي مرّ بها في الحياة. وكانا يتحدثان عن الماضي وعن الحياة التي كانا يعيشانها في القرية وكيف أنها تغيرت وتلاشت أغلب معالمها من حياة الناس ولم يعد لها وجود إلا في الذاكرة. الرجل الأكبر سنًا ينظر إلى حياة القرية على أنها حملت ذكريات جميلة؛ فالجوع الذي كانوا يُعانون منه وشظف العيش الذي لاقوه في ذاك الزمن قد درّبهم على الصبر والتحمّل، وقلة الأكل آنذاك قد حمتهم من الأمراض والعلل الصحية التي يُعاني منها الناس اليوم. كانوا يقومون بكل شيء بأنفسهم، فالنساء كن يطبخن ويغسلن ويعملن في الحقل ويرعين الأطفال، ويقمن بأعباء كبيرة للغاية دون مساعدة؛ وهذا ساعدهن على الرشاقة واللياقة البدنية والصحة. والأطفال كانوا يشاركون الأهل في العمل، فتجد الولد مع أبيه والبنت مع أمها، وهذا ما جعل ذلك النشء يتربى على القدوة المباشرة ويشارك في التجربة لكي يتهيأ للحياة، ويعرف كيف يتعامل معها. لم يكن عند الناس أموال زائدة تشغلهم عن حياتهم أو تأخذهم بعيدًا عن أسرهم؛ ولهذا فإن الأب يعرف أسرته جيدًا بل ويعرف جيرانه وأهل قريته ويتفقد أحوالهم، وكان هناك ترابط اجتماعي متين، فإذا غابت الأم عن بيتها لأي سبب أوكلت أمر نظافة البيت ورعاية الأطفال إلى إحدى الجارات؛ وإذا نقصت مؤونة المنزل أو غاب الزوج استعانت المرأة بإحدى الجارات. كانت الحياة بسيطة ولكنها ثرية بالروح الجميلة التي تسود بين الناس. الرجل الأصغر سنًا عاش التجربة السابقة في القرية ووجد أنها حياة بائسة لدرجة كئيبة للغاية، إذ يكفي أن يتذكر المرء الشقاء الذي مرّ بها ذات يوم لكي تكفهر الدنيا بأكملها في وجهه. ولك أن تتخيل كيف يمضي على الشخص يوم كامل لايجد ما يأكله، بل إن الأشهر تلو الأشهر تأتي ولايأكل الناس قطعة لحم، وكان الجوع يضرب بقوّته عليهم في بعض الأحيان حتى تنقطع الدورة الشهرية عن النساء، ويُصاب الأطفال بأمراض مستعصية تقودهم للموت. كان الرجل في حالة سيئة من الضعف والهزال وكأنه خارج من القبر لبشاعة منظره، والمرأة أسوأ حالًا من الرجل، فقد كانت هزيلة مهترئة وبائسة ويكاد منظرها يفزع لما كانت عليه من حالة لاتوجد فيها ملابس ولا أدوات تجميل. إذا مرض الشخص بأي مرض بسيط فليس أمامه سوى أدوية شعبية متواضعة، أو أن يواجه الموت، وكم مات من رجال ونساء وأطفال لأمراض بسيطة كالمغص والإسهال وارتفاع درجة الحرارة، والزكام والحصبة وغيرها. كان العنف هو لغة التفاهم بين أفراد الأسرة، فمن المعتاد أن يضرب الأب ابنه أو يكسر ساقه أو يشج رأسه، وكذا يفعل الزوج مع زوجته، فقل أن يخلو جسد زوجة من علامات الضرب وآثار التعذيب. أما العلاقة مع الجيران والأقارب فكانت تشوبها الخلافات حول الأراضي والنزاعات على آبار الماء أو المراعي، وهي أسباب تافهة تؤدي في بعض الحالات إلى التناحر والتقاتل، ويرث الأبناء العداوات عن آبائهم وأجدادهم دون أسباب واضحة.. إننا في الواقع أمام رؤيتين مختلفتين للعالم، وكل رؤية تنطلق من معطيات واقعية حصلت. والسؤال هنا: ما سبب الاختلاف في هذه الرؤية؟ وما علاقة ذلك بسمات الشخصية؟ وأيهما أقرب إلى الواقعية من الآخر؟ ولاننكر واقعية ما حدث لدى الرجلين، ولكن الرجل الأول قدّم ما مرّ به من منظور إيجابي، فركّزت رؤيته على البحث عن كل شيء جميل في التجربة، وتلافي السلبيات رغم علمه بها وإدراكه لأبعادها، مقابل قيام الرجل الثاني بالتركيز على السلبيات التي غطت على أي إيجابية ممكنة. وإذا سلّمنا بعدم وجود أيديولوجية تحرّك رؤية أي منهما، فلا الأول يريد تزيين الماضي والهروب إليه على حساب الحاضر الذي لم يتعايش معه، ولا الثاني يريد الترويج للحاضر والإعلاء منه مقابل التزهيد بالماضي والتنفير منه؛ فإننا أمام سمات للشخصية جعلت رؤية الأول تنتقي الجوانب الإيجابية التي تبعث عن التفاؤل والجمال في حين رشحت رؤية الثاني الجوانب القاتمة التي تجلب التشاؤم والكآبة. ومن المتوقع أن تصطبغ رؤية الرجل الثاني بهذه السوداوية نحو مجريات الحياة بشكل عام.