كفراشة تختار شموعها، أو كشمعة تنتقي فراشاتها، أتت. هكذا أتت كالفراشة التي تعطر النور، أو كالشمعة التي تضيء العطر. صارت تزخرف الهواء شيئاً فشيئاً بنظراتها الزائغة، التي ما ان استقرت، حتى استقر معها زخرف طفولتها. غدت شكل الهواء ولونه ورائحته. باتت شهيق المكان المتبختر بمخارج حروفها المتعثرة. على دفتر قلب أبيها، كتبت لثغتها الأولى بشغب مطرها، فاعشوشب الرمل. وفوق عشبه، أخذت تحبو باتجاه قلب أمها، تخربشه بخطوات لا تستقيم. - هيا يا حبيبتي. هات يدك. سنخرج معاً. كانت إذا أمسكت يده، تتفتح مسافاته بملح هدوئها، الذي لم يكن يشابهه ملح. معها، كان يشق البحر المتلاطم بانتكاساته. كانت كل موجة تلطمه لموجة، وكانت هي تدفع بعودها الذي اخضر، بعض هذا الموج. - لنرجع إلى البيت يا أبي. المذاكرة تنتظرني. كان يمتحن كل امتحاناتها، كما كانت تمتحن كل امتحاناته. كانت تجدل قامة أمها الباسقة كبرق الشتاء مع قامتها، فيهطلان معاً عالياً، بكبرياء نخلة نجدية متجذرة بتراب الصبر والاحتمال. ومثلما تفر الذكرى إلى ذكرى. وكما يلجأ الفيء إلى فيء، فرت قليلاً منه، والتجأت بوصلتها همساً إلى من ليس هو. - إذن، فأنت تحبينه؟!! لما أرخت عينيها، خجل الخجلُ من ضفائر الفضة المنهمرة من رموشها، وأدرك وهو يلتقط فضتها المتناثرة على سجادة حياته معها، انه حان للفيء الذي استظل به دوماً، أن تستظل به الذكرى الجديدة. هي اليوم معه. هو اليوم يسترجع، فراشتها، شمعتها، عطر نورها، نظراتها الزائغة، شهيق المكان بها، حروفها المتبعثرة، لثغتها الأولى، عشب رملها، حبوها باتجاه قلب أمها، خطواتها التي لا تستقيم، سنخرج معاً، عودها المخضرّ، امتحان امتحاناتها، برقها المجدول بالصبر، فيؤها، فضة خجلها. هو غداً سيعود إلى بيته الذي يفتقد جذور نخلتها. لكنه حينما يفتح بابه، سيشعّ البرق بالبخور، والليل بالحرير. سيكون تمرها السكري فاكهة النوافذ والجدران والشرفات وكل الأمكنة التي لاتزال تشهق لها وبها.