بعد انتظار طويل ورفْض متكرر استُجيب لتجهيز رحلة كولمبس فغامر باختراق ما كان يُسَمَّى بحر الظلمات المخيف، وواجه من العوائق والمخاطر مالا تستطيع اللغة وصفه. إن ريادة كولمبس بعد أن تحققت لها الاستجابة الإيجابية قد أحدثت تغييراً جذريًّا في التصورات والآمال والأفعال وفتحت كل الأبواب أمام المغامرين في كل المجالات وكان المتوقع أن يستجاب لعرضه دون تلكؤ لأنها ريادة عملية لم تطالب الناس بأن يتخلوا عن شيء من ثقافتهم السائدة، ولا عن معتقداتهم الأساسية إن قصة هذا الرائد المغامر تعد نموذجاً لما يواجهه الرواد من تسفيه ورفْض ومخاطر فقد ووجه عرضه برفض متكرر ولكن الفكرة كانت قد استغرقت كل اهتمامه، واستحوذت على أعماق ذاته فلم يستطع الكف عن الإلحاح بل ظل سنوات طويلة وثقيلة يكرر العرض، ويطرق كل الأبواب ويُسهب في تعداد المكاسب العظيمة المرتقَبة. لقد قوبل بالصد الموهن والمهين لكنه واصل الطرْق حتى استُجيب له فحقق مشروع عمره بنتائجه العالمية المذهلة، فلولا إصراره وإلحاحه وصبره لما تمت تلك الرحلة الفاصلة، ولكان العالم مختلفاً عما هو عليه الآن ولكن الاهتمام القوي المستغرق لم يتركه يرتاح فواصل العرض، وكرر الإغراء واستمر في الإلحاح حتى تحققت الاستجابة وتم الاكشتاف المذهل وبذلك فَتَحَ الطريق لاكتشاف النصف الذي كان مجهولاً من الكرة الأرضية. وهو نصفٌ لم يكن أحدٌ يتصور وجوده فتغيَّرتْ باكتشافه الرؤى واهتزت به العواطف، وتفتحت به العقول وتبدلت به الأوضاع ودخل العالم في عصر جديد من التصور والنشاط والبحث والمغامرة؛ لذلك لم يتردد الدكتور مايكل هارت في كتابه (المائة الأوائل) في أن يضع كولمبس في المرتبة التاسعة من حيث اتساع التأثير في الحياة الإنسانية وعظمة النتائج.. وهكذا ليس من عمل عظيم إلا وخلفه اهتمام تلقائي قوي مستغرق ومستمر إلى أن يتم بلوغ الهدف، ويتحقق إنجاز المهمة فالقدرات الإبداعية لاتتفَتَّح وتتفجَّر بالعطاء إلا إذا كانت الذات متوقدة باهتمام تلقائي، ومستنفَرة من داخلها ففي هذه الحالة فقط تتدفَّق الطاقة من أعماق الذات كما يتدفَّق الضياء من توقُّد الشمس، فالفرد حين يضطرم الاهتمام في أعماقه فإن ذلك قد يؤهله لعملٍ ريادي خارق ربما تتغيَّر به أوضاعُ سكان الأرض بأجمعهم. إن فاعليات الإنسان محكومة بدرجة توقد اهتمامه التلقائي وباستمرار هذا التوقد حتى النهاية فاهتمامات الإنسان الذاتية التلقائية هي التي تدفعه إلى التضحية والإخلاص والصبر والمغامرة والمثابرة والإصرار، وهي التي تملؤه بالثقة والإقدام مهما تكاثرت العوائق ومهما تواترت المثبطات. وهي الخصال التي كانت متوفرة في المكتشف المغامر كولمبس. وقد كانت إنجازاته في نظر أكثر المؤرخين فاتحة العصر الحديث.. لقد عاش كريستوفر كولمبس حلماً مثيراً لازمه سنوات ممتدة فقد كان يحلم بأن يفتح لأوربا من الغرب طريقاً يربطها بالصين والهند واليابان فلم تكن رحلة الاستكشاف الخطيرة ناتجة عن نزوة عابرة وإنما ظل سنوات طويلة وهو يعرضها على أمراء إيطاليا. ثم بإلحاح شديد على ملوك البرتغال وإنجلترا وأسبانيا، واستمرت محاولاته مع السلطة الأسبانية ثماني سنوات وهي محاولات لحوحة وصبورة، وقد قوبل بالرفض أكثر من مرة وكان هذا الرفض المتكرر يستند إلى تقارير لجان ومستشارين ولكنه لم ييأس، ولم يتوقف عن المحاولة فالفكرة كانت تؤرقه فهي ضاغطة وملحَّة فظلت تحاصره وتشغل اهتمامه، وأخيراً قررتْ السلطة الأسبانية تجهيز الرحلة بثلاث سفن وبمائة وعشرين من الرجال.. إن قصة اكتشاف كولمبس لأمريكا تقدم شاهداً قوياً لنظرية عبقرية الاهتمام التلقائي، كما تقدم شاهداً قويًّاً لنظرية الريادة والاستجابة فهذا الاكشاف الذي هزَّ أوروبا قد هيأ العقل الأوربي لرؤية جديدة، وعصر جديد وريادات جديدة في مجالات متنوعة. لقد تغيَّرت به التصورات فأسهم في تغيير العالم. إن هذا الاكتشاف الفاصل كان مسبوقاً ومصحوباً باهتمام تلقائي قوي مستغرق ومستمر. لقد بذل كولمبس جهوداً جبارة خارقة وطويلة لإقناع القادرين بتمويل رحلته العجيبة الخطيرة. لقد شغلته الفكرة وألحتْ عليه، وكان قد تصوَّر بخياله الخلاق التغيير الذي سيحدثه اكتشافه العظيم المدهش. كانت الفكرة في البداية مغامرة ذهنية بالخيال ثم أصبحت حقيقة عاشتها الدنيا كلها ومازالت تعيش نتائجها الكبرى لقد استغرقته الفكرة استغراقا كليا فأصرَّعلى المغامرة الخطيرة، وحقق الاكتشاف العظيم، ومثل ذلك يقال عن الكشوف العلمية والاختراعات التقنية والإبداعات الفنية والتطورات الاجتماعية والإصلاحات السياسية، وكذلك كل نشاط خلاق لابد أن يكون نابعاً تلقائياً وبقوة من أعماق الذات، وأن يبقى مصحوباً باهتمام تلقائي قوي مستغرق وليس مفروضاً فرضاً بالإكراه والقسْر، أو بجهد اضطراري وليس نابعاً من الذات كما هو الشأن بأكثر العاملين والدارسين.. إن رحلة استكشاف أمريكا كانت مغامرة خطيرة بل كانت في غاية الخطورة.. إنها اندفاعٌ جيَّاش نحو المجهول المظلم المحفوف بأصعب المخاطر وبوسائل غاية في الضعف ففي سفنهم البدائية قصفتهم الأعاصير، وغمرتهم الأمواج وأحاطت بهم السُّحُب التي ضاعفتْ الظلام وملأتْ الأجواء برعودها المزلزلة، وبروقها المنذرة وأمطارها الغزيرة، وكانوا طيلة الرحلة مهددين بالغرق وبالضياع ولكنها الفكرة المسيطرة والاهتمام القوي المستغرق فبهما تتحقق الخوارق فالرحلة حققت أعظم مما كانت تسعى إليه، وكما كَتَبَ الألماني البروفيسور روبرت تسيمر في كتابه : (في صحبة الفلاسفة) :(عندما وضع كريستوفر كولومبس قدميه على الأرض الأمريكية في نهاية القرن الخامس عشر لم يكن يعرف أيَّ قارة عملاقة قد اكتشفت، ولا أي دور ستؤديه في التاريخ). لقد كان كولمبس يريد ربط أوربا بالصين والهند من الغرب بعد أنْ اقتنع بكروية الأرض ولكنه اكتشف قارتين سيكون لهما شأنٌ عظيم، كما أن هذا الاكتشاف مهَّد لاكتشاف قارة ثالثة (أستراليا) فتبين بذلك أن الأرض ست قارات وليست ثلاثاً... كتب المؤرخ السير جون هامرتن عن رحلة كولمبس في المجلد الخامس من كتابه (تاريخ العالم) :(كانت أعظم ما عُرف من الرحلات في تاريخ العالم كان عدد البحارة الذين خرجوا مع كولمبس مائة وعشرين بحَّاراً حملتهم ثلاثُ سفن أبحرتْ بهم وفي نهاية الأسبوع العاشر وقع نظرهم على الأرض .. إن ماعَثَر عليه كان عالماً جديداً). لقد حقق :(نتائج بالغة الخطورة) لكن هذه النتائج العظيمة الخالدة لم تتحقق إلا بمجابهات تسحق أقوى الرجال فلم يكن كولمبس يجابه المجهول والمخاطر فقط وإنما ثار عليه رفاقه الذين أرعبتهم الصعاب التي واجهتهم فقد رأوا أنهم يسيرون إلى غير هدى نحو الهلاك فتمرَّد عليه المرافقون له في نفس السفينة كما طالبه ملاحو السفينتين الأُخْريين بالعودة فوراً إلى أسبانيا، وبعد مفاوضات عسيرة وافقوا أن يواصلوا الرحلة ثلاثة أيام فقط فإن لم يصلوا إلى أي أرض فسوف يستجيب لضغطهم ويعود وأخيراً وصلوا إلى أول لسان من ألسنة الأرض الأمريكية.. إن فرانسوا فوركيه في كتابه عن (تطور القيم الغربية) يتوقف أمام التحول الذي أحدثته هذه الاكتشافات الجغرافية باعتبارها أحد ثلاثة تحولات عظمى في التاريخ الإنساني فاكتشاف أمريكا مسَّ العقل الأوربي مسًّاً مثيراً فهبَّت أوربا لتكتشف ثلاث قارات جديدة هي أمريكا الجنوبية وأمريكا الشمالية وأستراليا ومئات الجزر التي كانت غير معروفة أما قبل ذلك فكان نصف الأرض مجهولاً. إن هذه الكشوف قد ارتقت بأسبانيا من دولة صغيرة مكدودة في طور التكوين الهش إلى امبراطورية عظيمة تمتد حدودها إلى أقصى الأرض ونتج عن هذا الامتداد تدفق الثروة على أسبانيا، وانتشار اللغة الأسبانية وسيادتها في جميع دول أمريكا الجنوبية باستثناء البرازيل التي كانت من نصيب البرتغال فسادت فيها اللغة البرتغالية.. ولأهمية هذا الاكتشاف وضخامة النتائج الإيجابية التي ترتبت عليه، والتغيرات الكبرى التي نتجت عنه فإن الاهتمام به لا يتوقف سواء على صعيد التاريخ أو الاقتصاد أو التطور الحضاري بل حتى الفن يشارك في الإشادة به وإبقائه حيًّاً في الذاكرة الإنسانية فعند نهاية القرن العشرين أصدر الروائي المكسيكي كارلوس فونتس رواية بعنوان (كريستوفر وبيضته) لا ليكتفي بالوقائع التاريخية وإنما يستخدم الخيال المحض ليغرس في نفوس قرائه أنه :(منذ وُجد كريستوفر في بطن أمه وهو يسعى للمعرفة وطوال الشهور التسعة التي ظل فيها هناك كان يرى كل شيء لقد حكوا له الكثير وعَرَفَ الكثير عن بلاده وعن الأوطان الأخرى، ولذا فهو لن يبكي مثلما يفعل الأطفال حين يولدون !!). هكذا هم الرواد الفائقون إذا استُجيب لهم فإنهم يُلهمون الأجيال، ويثيرون الخيال في إنجازاتهم فينظر إليهم الناس كأشخاص استثنائيين خارقين يختلفون عن عامة البشر حتى وهم في بطون أمهاتهم أو أثناء ولادتهم وذلك من أجل إبراز الأهمية وتأكيد التفرد.. يقول عنه روبرت غرين في كتابه (كيف تُمسك بزمام القوة):( كان يشعر منذ وقت مبكر بأن القَدَر قد اختاره من بين الناس لتحقيق أشياء عظيمة)، ويقول عن الملكة إيزابيلا التي استجابت له بعد ممانعة طويلة ورفْض متكرر بأنها قد اقتنعت بأن :(كولمبس مقدَّر له أن يحقق أشياء عظيمة)، ويقول:(كانت لكولمبس قدرة مذهلة على أن يفتن النبلاء ويسحرهم، وكانت كلها ناجمة عن الطريقة التي يتصرف بها فقد كان يُبرز شعوراً بالثقة ولم تكن ثقته محاولة عدوانية قبيحة لترويج نفسه بل كانت ثقة بالنفس هادئة رزينة). لقد كان موقناً من أعماقه بأن مهمته سوف تنجح وبأنها ستصير نقطة تحول في التاريخ الأوربي والإنساني فجاءت النتائج أعظم مما كان يطمح إليه.. وعلى مستوى الفكر نجد أن المفكر البولندي كْوودكو في كتابه الجديد والمثير (السياسة والاقتصاد في عالم متغير) يتوقف أمام إنجاز كولمبس بمهابة وإجلال فيقتبس من المفكر الفرنسي جاك أتالي نصَّاً قصيراً معبراً عن إعجابه الشديد بتلك اللحظة المثيرة وهو يتحدث عن كولمبس فيقول أتالي:(خلال فترات الصفاء الوجيزة عندما يتوارى العنف والغباء تتفتَّح الزهور فوق كومة من الروث)، فأتالي وكْوودكو كلاهما يَعتبر أن عام 1492 (كان عاماً حاسماً للتغيرات المصيرية .. فهذا العام هو عام الولادة الحقيقية للعصر الحديث ولكل التأثيرات الثقافية التالية).. إن هذه النتائج العظيمة لم يكن ممكناً حصولها لولا التكامل العضوي بين الريادة الفردية الخارقة، والاستجابة الإيجابية الكافية حتى وإنْ جاءت الاستجابة بعد رفْض متكرر واستخفاف ممض باعثٍ لليأس.. ولأن اكتشاف أمريكا كان نقطة تحول حاسمة في تاريخ الحضارة ومع أهميته البالغة فإن حصوله لم يكن حتمياً فلو لم يكن التكوين النفسي لكولمبس قد هيأه لمثل هذه المهمة، ولو استمر الرفض لعرضه من قبل الممولين لما تحقق الاكتشاف لذلك فإن كولمبس يظل حاضراً في كل الحقول.. وعلى سبيل المثال فإن أستاذ العلوم السياسية الألماني البروفيسور وولف فاغنر في كتابه (كيف تعمل السياسة) يحلل احتمالات السياسة وما يترتب على أي تغيُّر فيها من تحولات كبرى في الأوضاع العالمية، ويستشهد بالإنجاز الذي حققه كولمبس فيرى أنه لو لم يظهر لسارت الحضارة في اتجاه مختلف فإن قُدِّر ظهور ريادي آخر فسوف يتأخر ذلك مائتي عام فلا يوجد حتميات في منطق التاريخ وإنما هي ملايين الاحتمالات أو آلافها على الأقل. ويقول: (فالتاريخ كان سيأخذ مجرى آخر غير الذي نعرفه حاليا فمن الممكن أن يأخذ التاريخ مجرى آخر بسبب تغيرات بسيطة أو حدث صغير .. قد لايبلغ عدد الاحتمالات المعقولة في حياة كولمبس جراء هذه التغييرات البسيطة بضعة مليارات لكنه يصل إلى آلاف كثيرة كانت غالباً على شفير الهاوية وبذلك لم يكن بالإمكان ذكر أمريكا). إن الاحتمالات حول اتجاهات الحضارة والأسباب غير المدرَكة لتحولاتها الحاسمة لاتنحصر في ظهور كولمبس أو عدم ظهوره كشخص، وإنما كان بالإمكان أيضا أن تتخذ حياته مساراً آخر فلا يهتم بهذا الكشف. وكما يقول وولف فاغنر : لنبحث في أمر كولمبس .. لو أنه لم يقم بعمل واحد من أعماله الكثيرة والمتنوعة والتي صمَّمَتْ وحدَّدتْ أحداث طفولته لكان انتهى ككاهن فقير في أحد الأمكنة في إيطاليا دون رؤية القارة الأمريكية على الإطلاق.. وعكس ذلك كان ممكناً أن تكون الانطلاقة الأولى من إنجلترا وحينئذ ستكون النتائج أعظم وأشد إبهاراً فكم كان العالم سيصير أكثر تحضُّراً لو انطلقت البداية من إنجلترا فحين نقرأ التاريخ نجد أن محاولات كولمبس في أسبانيا وحدها قد دامت ثماني سنوات، وأنه بعد أن يئس من تحقيق الاستجابة كان ينوي عرض الفكرة على الملك الانجليزي والملك الفرنسي، وكان وشيكاً أن يبدأ السير في هذا الاتجاه لولا بعض الوساطات التي أنهت التردد، وليتها لم تحصل وليته فَعَل فلو كانت الانطلاقه الأولى قد بدأت من إنجلترا لكانت أوضاع العالم أفضل، ولكانت أمريكا الجنوبية بدولها الكثيرة تعيش الآن ازدهاراً شاملاً، وأنظمة ديمقراطية مستقرة كما هي حال كل المجتمعات التي امتدت إليها الثقافة الانجلوسكسون فبعد نجاح رحلة كولمبس هبَّت إنجلترا وبعد صراع مع فرنسا في أمريكا الشمالية استطاع الانجليز أن ينفردوا بالقارة فترسخت الثقافة الانجلوسكسون في الولاياتالمتحدةالأمريكية وفي كندا فلو أن السيادة فيها صارت للثقافة اللاتينية (الأسبانية والبرتغالية) لبقيت متخلفة كما هو شأن أمريكا الجنوبية حيث ورثتْ الاستبداد والانغلاق عن أسبانيا والبرتغال أما الثقافة الانجلوسكسون فإن الانفتاح والازدهار والديمقراطية تصاحبها أينما تحركت كما هو واضح من كلّ البلدان التي سادت فيها هذه الثقافة: الولاياتالمتحدةالأمريكية، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلندا، وجنوب أفريقيا، وماليزيا، وسنغافورة، والهند، وإسرائيل.. إن الإيمان بقضية أو فكرة إذا هو استحكم فإنه لايدع الإنسان يستقر حتى يصل إلى هدفه. وكما يقول مايكل هارت عن كولمبس:(كان مقتنعاً أنه من الممكن أن يجد طريقاً إلى شرقي آسيا بالإبحار غرباً عبر المحيط الأطلسي رأساً، وقد تابع هذه الفكرة بإصرار وعناد .. كانت رحلة طويلة فدب الفزع في قلوب البحَّارة وكشفوا عن رغبتهم في الرجوع ولكن كولمبس أصرَّ على الاستمرار إنه لواضحٌ تماماً أن أول رحلة لكولمبس كان لها تأثير ثوري على تاريخ أوروبا. إن اكتشافه دشَّن عصر الرواد، وكان أحد الأحداث الفاصلة في التاريخ) ولكن الاعتراف بتأثيره الإيجابي العظيم لم يمنع مايكل هارت من أن يدينه أخلاقيًّا في معاملته القاسية اللاأخلاقية للسكان الأصليين فكولمبس لم يكن نبيل الأخلاق، ولا شريف التعامل بل كان فظًّاً غليظاً ولكنه كان عظيم التأثير على العالم.. إن كولمبس من الرياديين الذين يعيشون الفكرة بكل جوارحهم فتنبض بها قلوبهم، وتمتلئ بها عقولهم، وتتوتَّر بها أعصابهم وتصطبغ بها حياتهم ويرتبط بها مصيرهم، ويستغرقون فيها تفكيراً وسلوكا ويبقون يعيشونها حلماً لايهدأ وكما جاء في كتاب (الشطح الإبداعي ضرورة حياتية)؛ حيث تورد المؤلفة أنكه ماير جراسهورن اسم كولمبس، وريتشارد فاغنر، وبيل غيتس باعتبارهم من أشهر ذوي الشطح الإبداعي، وترى أن أبرز صفات هؤلاء الأفراد أنهم مستغرقون فيما نذروا أنفسهم له، وأنهم لايتخلون عن أفكارهم حتى لو بقوا وحدهم، وأنهم يبتكرون آلياتٍ لتحمُّل مواقف عسيرة وأن لديهم قدرة التفكير الخارق، وأن ثقتهم المطلقة تؤثر في غيرهم وأن دوافعهم تتأجَّج من داخلهم فليسوا بحاجة إلى أي حافز خارجي، وأنهم لايهتمون بتقييم الآخرين لهم مهما كان جائراً فهم مقتنعون من تفوقهم.. ولا يتوقف الانبهار بهذه المغامرة الجريئة وإبراز ما نتج عنها من تأثير واسع وما تمخضتْ عنه من تطور حاسم على مسيرة الحضارة ففي الجزء (23) من (قصة الحضارة) يقول ويل ديورانت في الفصل الذي كتبه عن كولمبس:(إن الاعتزاز بالعمل الفذ ألهم العقل البشري إذْ شعر الناس أن شجاعة العقل البشري قد تغلبت على دنيا المادة، وأنكر الاختصار والشعار السائد في القرون الوسطى عن جبل طارق، وأنْ لاشيْء خلفه وأصبح هذا الشعار الآن : بل خلفه الكثير وزالت كلُّ الحدود وأصبح العالم مفتوحاً، وبدا كل شيء ممكنا والآن بدأ التاريخ الحديث بموجة طاغية تتسم بالإقدام والتفاؤل) ولكن هذا الرجل المقدام تنقصه الحنكة الإدارية فلم ينجح في إدارة البلاد التي اكتشفها فطلب من السلطة الأسبانية أن ترسل مساعداً يعينه على الإدارة ولكن أسبانيا أرسلت بديلاً عنه فاختصم مع البديل، ووصل الخصام إلى درجة أن ذلك البديل أرسل كولمبس إلى أسبانيا مكبلاً بالقيود ومع هذا الإذلال الذي تعرض له فقد كرر المغامرة أربع مرات وفي الرحلة الرابعة الأخيرة داهمته زوبعة هوجاء كادت أن تقضي عليه فقد غرقت كل السفن العائدة إلى أسبانيا باستثناء واحدة وغرق خمسمائة رجل كانوا مع الحاكم (بوباديلا) كما غرق الحاكم نفسه الذي أرسل كولمبس مهاناً مقيداً أما كولمبس نفسه فنجا بعد هول فظيع وكتب في مذكراته يقول :(ظللت تائهاً لمدة تسعة أيام وضاعت كل بارقة أمل لي في الحياة لم تر عيناي قط بحراً كهذا هائجاً عالي الأمواج يغطيه الزبد إن الرياح لم تمنع تقدمنا فحسب بل إنها لم تُتح لنا أية فرصة للسير .. ولم تبد السماء قط مخوفة كما بدت في هذا اليوم ترسل شواظاً من نار يلسعنا كألسنة اللهب، وتفجَّر البرق بشدة وكانت ومضات البرق تتوالى بعنف وبصورة مروِّعة حتى اعتقدنا جميعا أن السفن توشك أن تنفجر، ولم تتوقف الأمطار فقد كانت المياه تتدفق حتى خُيِّل إليّ أنه طوفان آخر، وكان الرجال منهوكي القوى وتمنوا الموت ليضع حدٍّا لآلامهم المروِّعة).. هكذا هي الإنجازات العظيمة لاتتحق إلا باهتمام قوي مستغرق يصاحبه كدٌّ مرهق، وصبرٌ طويل وإصرارٌ يبلغ حد العناد فإذا كانت النفوس كباراً تعبتْ في مرادها الأجسام.. إن ريادة كولمبس بعد أن تحققت لها الاستجابة الإيجابية قد أحدثت تغييراً جذريًّا في التصورات والآمال والأفعال وفتحت كل الأبواب أمام المغامرين في كل المجالات وكان المتوقع أن يستجاب لعرضه دون تلكؤ لأنها ريادة عملية لم تطالب الناس بأن يتخلوا عن شيء من ثقافتهم السائدة، ولا عن معتقداتهم الأساسية ولكن النتائج شملت في النهاية كل شيء فلم تنحصر في ما استهدفه المغامر وإنما امتدت إلى مجالات الأفكار والأفعال والأوضاع فاهتزت أوروبا اهتزازاً نقلها من حالة الركود إلى حالة النشاط والتوقد والمغامرة..