في وقت سابق كانت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد أصدرت بياناً صحفياً شديد اللهجة، تضمن استنكاراً لما وصفته بأنه ( أسلوب وزارة الصحة في التعاطي مع مطالباتها فيما يتعلق بالمخالفات الموجودة في إدارات الصحة المختلفة ) وهذا الأسلوب الذي أنكره بيان الهيئة هو أنها لاحظت أن خطاباتها ومقترحاتها تحال إلى الفرع أو المسؤول الموجهة له المخالفات الذي هو محل مساءلة عما حدث، للإجابة عليها، ثم يحال ما يجيب به إلى الهيئة دون تعليق، ودون القيام بالإجراءات التي طلبتها الهيئة، ومنها التحقيق وتحديد المسؤولية . وقالت الهيئة في بيانها: وغنيٌ عن الإيضاح إن المسؤول عند حدوث الخلل لن يدين نفسه بالاعتراف بوقوع الخطأ أو الإهمال، وأحيانا يجري تكليف المسؤول ذاته بإصدار بيان يرد فيه على بيان الهيئة، وينفي فيه ما أثبتته. ثم علّق بيان الهيئة على هذا الأسلوب بالقول: بأنه ''لا يؤدي إلى إصلاح الأوضاع ومعالجة أوجه القصور والإهمال وشبهات الفساد ومحاسبة المسؤولين''. حق التقاضي مكفول بموجب أحكام الشريعة أولاً ونصوص النظام الأساسي للحكم ثانيا. كما أنه ليس من المقبول لدى ولاة أمر هذه البلاد في القديم والحديث أن يحول أحد بين القضاء الشرعي وبين أي متظلم من النظر في تظلمه. وحقيقة فإن هذا البيان الجريء الصادق من الهيئة الموقرة استوقفني طويلاً عند قراءته، لأن ما وصفته الهيئة بأنه ( أسلوب وزارة الصحة ) ليس إلا ثقافة ضاربة بأطنابها في إداراتنا الحكومية وكافة وزاراتنا، ومنهجاً مُتّبعاً من مناهج البيروقراطية الإدارية البغيضة، ليس حكراً على وزارة الصحة وحدها . وهذا الأسلوب الذي درجت عليه جميع الوزارات والجهات الحكومية هو السبب الرئيس في وقوع الكثير من المظالم والتجاوزات والأضرار بالناس، فحين يتقدم المشتكي بشكايته والمتظلم بظلامته إلى المسؤول الأعلى لأي جهة حكومية مشتكياً من إدارة أو مدير، أو رئاسة أو رئيس، تحال شكواه إلى تلك الإدارة ذلك المدير ويطلب منهم الإفادة، وفي الحقيقة فإن تسميتها بالإفادة قد يكون من باب المجاز لا الحقيقة، لأنها غالباً لا تحمل شيئاً من الفائدة ولا تكشف إلا نزراً يسيراً من الحقيقة، ولا تتعدى هذه الإفادة أن تكون تبريراً وتضليلاً للمسؤول الذي طلبها، وعلى أحسن الاعتبارات تكون شرحاً لوجهة نظر الإدارة أو المدير فقط، دون أن تتضمن وجهة نظر المشتكي ومبرراته وما لديه من حقائق ووقائع ودلائل . وبالتالي فتكون تلك الإفادة هي الوسيلة الوحيدة المتاحة للمسؤول الأول ليبني عليها توجيهه الذي يعتبر هو القول الفصل في الشكاية والتظلم، وتموت بعده الحقيقة، ويشيعها صاحب الحق في جنازة تضج بالصياح والعويل . بل إنه في صورة أقسى وأمضّ من هذه الصورة، قد يلجأ صاحب المظلمة والشكاية إلى مقام خادم الحرمين الشريفين بشكواه، بينما في كثير ٍمن تلك الشكاوى والتظلمات يعتبر المرجع النظامي الأقرب لها هو القضاء الإداري متمثلاً بديوان المظالم، إلا أنه بسبب الجهل الحقوقي لدى كثير من الناس يلجأون إلى المقام السامي بشكاواهم التي ضاق بها الديوان الملكي، وتزاحمت على مكاتب مستشاريه ومسؤوليه ، ثم إذا صدر من المقام السامي الكريم توجيه لا يلبي رغباتهم أو يحقق مطالبهم تذكروا فإذا هم مبصرون، ثم اتجهوا إلى ديوان المظالم وأقاموا لديه الدعوى. وفي كثير من تلك الحالات لا يعلم المتظلم ُ أو المشتكي أن لجوءه إلى المقام السامي حال بينه وبين حق التقاضي ومنعه من الوصول لغايته التي قد تكون حقاً مشروعاً له !! ولعل سائلاً يسألني: كيف ذلك ؟! فأقول : إن مما يؤسف له في القضاء الإداري أنه حين تقام الدعوى لديه ضد إحدى الجهات الحكومية وهذه الدعوى في الأصل من اختصاصات ديوان المظالم الأصيلة، يكون بعض أصحاب هذه القضايا قد لجأوا بشكاواهم إلى المقام السامي فأصدر فيها المقام السامي توجيهاً بناء على ما أفادت به الجهة الحكومية من وجهة نظرها هي فقط، ثم تأتي تلك الجهة الحكومية أمام القضاء الإداري وبكل بساطة تقدم في إجابتها عن دعوى المدعي: أن دعوى المدعي هذه قد صدر فيها توجيه من المقام السامي وبالتالي فلا يجوز للقضاء الإداري نظرها لأنها من أعمال السيادة !! ثم وبمجرد قول الجهة الحكومية ذلك يسارع القضاء الإداري إلى إصدار الحكم برد الدعوى لهذا السبب ويوافق الجهة المدعى عليها على أن صدور هذا التوجيه السامي يعتبر مانعاً من النظر في تظلم المتظلم حتى وإن كانت مظلمته من اختصاص ديوان المظالم !! . إذاً فقد أصبح الخصم هو الحكم، وفرضت الجهة الحكومية وجهة نظرها بالقوة ؛ قوة المقام السامي، وقوة القضاء !! إلا أنه متى ما بحثنا عن الحق والعدل، وأردنا في هذه المشكلة القول الفصل، فإنه لا يمكن مطلقاً أن يكون صحيحاً أن مجرد صدور توجيه سام ٍ كريم بناء على ما عرضته الجهة الحكومية من وجهة نظرها، عملاً من أعمال السيادة التي تمنع القضاء من البحث والتحقق وبسط رقابته على أعمال الجهات الحكومية. وذلك لأسباب عديدة أهمها : أولاً : انه لا يمكن مطلقاً أن يوافق خادم الحرمين الشريفين أو أن يكون قصده " أيده الله " حرمان المواطن من حقه المشروع في التقاضي، فحق التقاضي مكفول بموجب أحكام الشريعة أولاً ونصوص النظام الأساسي للحكم ثانيا. كما أنه ليس من المقبول لدى ولاة أمر هذه البلاد في القديم والحديث أن يحول أحد بين القضاء الشرعي وبين أي متظلم من النظر في تظلمه، فمنذ عهد مؤسس البلاد الملك عبدالعزيز " غفر الله له " وهو وجميع أولاده من بعده أياً كان موقعهم في المسؤولية درجوا على تأسيس مبدأ في توقيعاتهم على شكاوى الناس بعبارة ( الشرع مطهره ) . ثانياً : إن صدور هذا التوجيه السامي في تظلم المتظلم إنما كان بناء على ما عرضته الجهة الحكومية من وجهة نظر، وقد تكون وجهة النظر هذه خاطئة أو حتى الوقائع الواردة فيها غير دقيقة أو غير صحيحة، وقد حدث هذا في بعض الوقائع، وبالتالي فإن وجهة نظر جهة الإدارة لو كانت قدمتها للقضاء الإداري لحكم بخلافها وأنصف المشتكي، وعليه فلا يمكن أن تكون وجهة النظر الواحدة حائلاً دون القضاء وبسط رقابته . ثالثاً: إن من المستقر في مبادئ العدالة أنه لا يضار المشتكي بشكواه ولا المعترض باعتراضه ولا المتظلم بتظلمه ( إلا إن ثبت كيديته وتعمده الكذب والتضليل ) وإذا كان لا يضار بشكواه فكيف تكون شكواه ولجوءه إلى ولي الأمر بمظلمته موقعاً له في الظلم وملحقاً به أبلغ الضرر ؟! بل إنه في بعض القضايا يصدر قرار إداري واحد بحق عدد من الأفراد، فيكون بعضهم أكثر فهماً من بعض ويلجأ إلى القضاء الإداري مباشرة للتظلم من ذلك القرار، بينما يلجأ بعضهم إلى المقام السامي بالشكوى، فتحال شكواه إلى الجهة التي أصدرت القرار، ثم تعرض وجهة نظرها ومبرراتها على المقام السامي، فيصدر التوجيه بأن يُفهم المشتكي بذلك وأنه ما دام الأمر كذلك فلا مانع. ثم يعود المشتكي بعدها إلى ديوان المظالم الذي لجأ إليه أصحابه من قبل، فما يكون من الديوان إلا أن يصدر أحكاماً بإنصاف الذين لجأوا إليه مباشرة وإلغاء ما صدر بحقهم من قرار، بينما يرفض دعوى الذي لجأ إلى المقام السامي بحجة أنه صدر بحقه وحده توجيه سام كريم !! فوقع القضاء في التفريق بين المتماثلات الذي لا تأتي به الشريعة ولا تقره. رابعاً : إن من المبادئ المستقرة المعلومة أن أعمال السيادة مقصورة فقط على ما صدر عن الملك أو الحاكم من قرارات بصفته سلطة حكم لا سلطة إدارة، وعلى هذا فلا يمكن قطعاً أن تدخل مثل هذه التوجيهات المبنية على عرض الجهة الحكومية تحت نظرية أعمال السيادة . خامساً: إنه في كثير من الأوامر والتوجيهات السامية الكريمة التي تصدر بشأن تظلمات الناس وشكاواهم غالباً ما تتضمن التوجيه بأنه إذا لم يقنع المشتكي أو المتظلم بهذا التوجيه فله اللجوء للقضاء وتطبق بحقه الأنظمة والتعليمات، وقبلها أحكام الشريعة. وهذا يؤكد أنه لا يمكن أن يقصد بالتوجيهات السامية التي تصدر على شكاوى الناس حرمانهم من حق التقاضي، أو الحيلولة بين القضاء العام أو الإداري وبين بسط ولايتهما وإعمال اختصاص كل منهما فيما يخصه . لذا فكم أتمنى على معالي رئيس ديوان المظالم ومشايخي وإخوتي قضاة الديوان أن يتنبهوا لهذه المسألة المهمة، وأن يمنحوها حقها من الرعاية والعناية والبحث، براءة لذمة ولي الأمر الذي ائتمنهم على هذا الأمر العظيم أولاً، وبراءة لذممهم ثانياً،ولا سيما وأنه كان في السابق تصدر عن ديوان المظالم أحكام من هذا النوع قررت أن التوجيه السامي المبني على عرض من الجهة الحكومية يتبين للقضاء أنه عرض غير صحيح أن مثل هذه القضايا تدخل ضمن الاختصاص ويبسط عليها القضاء الإداري رقابته . أسأل الله العظيم أن يوفقنا جميعاً لمرضاته وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم سبحانه . *القاضي السابق في ديوان المظالم والمحامي حالياً