تزخر مؤلفات النقد الأدبي بمئات التعليمات والنصائح التي يحرص النقاد على تقديمها للشعراء وتذكيرهم بها على أساس أن الموهبة وحدها غير كافية لصناعة مُبدع قادر على كتابة قصيدة مُتفوقة وخالدة في الأذهان، فنجد أنهم قد تحدثوا بإسهاب عن صفات الشاعر الناجح وما يجوز له وما لا يجوز ونبهوا إلى الأساليب التي ينبغي له الاحتذاء بها أو مُخالفتها، وأشاروا أيضاً إلى الأوقات والأماكن والأمور التي تساعده على استحضار قريحته والنظم بصورة أفضل، لكن تلك النصائح التي تراكمت على مر الزمن وأضاف إليها الشعراء أنفسهم الكثير من واقع ممارستهم لنظم الشعر لم تستطع أن تمنح المُلتزم بتطبيقها مُعادلة ثابتة تمنحه الراحة وتُمكنه من التفرد عن غيره من الشعراء. أبرز نصيحة وُجهت للشعراء وأدركها كثير منهم قبل ذلك هي ضرورة الاجتهاد والتزام الصبر وعدم اليأس من قدوم القصيدة المنتظرة، فالشعر كما يصفه الشاعر نزار قباني –ويتفق معه معظم الشعراء- "هجمة مُباغتة" وممارسة شبيهة بممارسة الصيد التي لا يُمكن التنبؤ بمدى مشقتها أو بمحصلتها النهائية التي قد تكون وفيرة وقد تكون شحيحة ومخيبة للآمال، فاليوم الشعري في انتظار القصيدة كما يراه قباني في كتابه الرائع (ما هو الشِعر؟): يومٌ طويل يُشابه يوم صائد الأسماك "وصيادو السمك كصيادي الكلمات يتعاملون مع السِّر والصُدفة ونداء الأعماق، إنني أقعد على حافة الورقة بانتظار أسماك جديدة مختلفة اللون والحجم، ويجوز أن يصطاد الشعراء الآخرون أسماكهم بالديناميت أو يشترونها (مثلّجة)، أما أنا فأصطاد أسماكي بخيوط الصبر .. ولا أتعامل مع السمك أو مع البحر بطريقة غير أخلاقية".! وانتظار الشاعر الطويل والمرهق واستعانته بخيوط الصبر بعد عون الله من أجل اصطياد قصيدة مُختلفة في لونها ومذاقها عن سائر القصائد قد لا يؤدي بالضرورة لنتيجة مُقنعة للطرف الأهم في عملية تخليد القصيدة وهو: المتلقي، إذ يخبرنا تاريخ الشعر عن آلاف الشعراء الذين رحلوا بصحبة أشعارهم التي لم تجد لها مكاناً في أذهان الناس أو في مصنفات الكُتاب على الرغم من حرصهم ومثابرتهم، ومن الشعراء مَن قد نعده أسعد حظاً مقارنة بأولئك الشعراء كما هو الحال مع الشاعر عمرو بن نصر القصافي الذي أخبرنا دعبل بأنه قد "قال الشعر ستين سنة لم يُعرف له إلا بيت واحد وهو: خوصٌ نواج ٍ إذا صاح الحُداةُ بها رأيت أرجُلها قُدّام أيديها" وإذا ما علمنا بأن هذا الشاعر الذي نظم الشعر ستين عاماً "من الشعراء المُحسنين" وكان –كما ذكر ابن الجراح في (من اسمه عمرو من الشعراء)- "أحسن شعراء عصره ابتداء شعر" أدركنا بأن شيوع القصيدة أو الأبيات وخلودها يتطلب توافر عناصر أخرى غير فنية لا بُد أن تُضاف لعنصر الإتقان وللجهد الذي يبذله الشاعر في انتظار القصيدة وفي تجويدها..!