العامة والغوغاء دائما يتبدون بصورة جسد هائل يموج الانفعالات ويحتدم بالعاطفة، ولكنه بلا رأس، أي بلا قدرة على التفكير والاستبصار وقياس الظروف بحكمة وتروٍّ وقدرة على وضع الأمور في نصابها وظرفها التاريخي. ولو كان الدهماء والغوغاء يمتلكون بصيرة لما طوقوا منزل ذي النورين عثمان رضي الله عنه، الذي تستحي منه الملائكة، ولما تسوروا حائط بيته ومن ثم عدوا عليه وقتلوه بينما زوجته (نائلة بنت الفرافصة) تدفع عنه السيوف بأناملها حتى تقطعت. وهم من صنفهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه بالدرك الأسفل من المجتمع عندما قال (الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، ورعاع همج يميلون مع كل ريح). وعادة الغوغاء يكون لهم قائد أو موجه يتسم بالحمق وخفة العقل، وهو يتبادل المنافع وإياهم ويستقوي بهم، فهم من ناحية يمنحونه: المجد، ويمنحونه السلطة عليهم، ويطوقونه كأتباع ومريدين ويمنحونه المنعة ضد السلطة. وهو بدوره يسمعهم ما يطلبونه من الفتاوى التي يودون سماعها وتطربهم وتربت على مألوفهم وتستجيب لجيشانهم. المأساة تظهر عندما نجد أن كل برنامج من البرامج التي تسعى لها الخطط التنموية الوطنية سرعان ما يتلقفها مجموعة الدهماء وقائدهم (الذي يعاني من حماقة أعيت من يداويها) ويبدأون في الصخب والضجيج والزمجرة ومحاولة حجبها وعرقلتها وفرض شروطهم وليّ اليد، وإيقاف أي غراس في حقول رخاء ورفاه المواطن. وهم الآن يحاولون أن يتسوروا حائط (جامعة الأميرة نورة) وهي الجامعة الحلم التي لطالما حلمت فتيات الوطن بها، ولطالما علقنا عليها الآمال والطموحات في تدريب وتأهيل وإعداد بناتنا من منسوباتها وفق المقاييس العالمية المتقدمة بعد أن استيقظنا فجأة لنجد جامعات وليدة مبتدئة في محيطنا الخليجي قد تفوقت علينا أكاديميا، ولكنهم الآن قد بدأوا في التهديد والوعيد والزعيق والتحدث باسم المجتمع على اعتبارهم أكثرية، ولكن جميعنا نعرف بأن الزعيق والانفعال المرتفع لم يكن في يوم ما مؤشرا على الأكثرية، وإلا لكانت أقلية اللوبي الصهيوني في أمريكا التي دأبت الضجيج وإثارة الضوضاء تعبر عن رأي الأغلبية! يقول غوستاف لوبون في كتابه سيكولوجية الجماهير (الجماهير لا تعقل، فهي ترفض الأفكار أو تقبلها كلاً واحداً، من دون أن تتحمّل مناقشتها. وما يقوله لها الزعماء يغزو عقلها سريعاً فتتّجه إلى أن تحوّله حركة وعملاً، وما يوحى به إليها ترفعه إلى مصاف المثال ثم تندفع به، في صورة إرادية، إلى التضحية بالنفس. إنها لا تعرف غير العنف الحادّ شعوراً). الاستقواء بالغوغاء وتجييشها وإثارة انفعالها لتقف في وجه مركبة التنمية هو أسلوب قديم لم يندثر لطالما استخدم لعدة أسباب قد يكون منها تمرير مصالح أو أهداف خاصة أو ليّ يد السلطة وإثبات الوجود او أنها ببساطة الحماقة التي أعيت من يداويها.