دعيت إلى مهرجان صيف أرامكو في مدينة الرياض، وكنت أتوقع أن أرى معرضا عاديا، كما هي العادة في مثل هذه المناسبات، لكنني فوجئت بمهرجان حقيقي يربط بين التعليم والترفيه، والحقيقة أنني فوجئت أكثر بالعدد الكبير الذي كان قد ملأ القاعات كلها تقريبا، فهذا العدد اليومي الكبير يثير تساؤلا مهما لدي، فالمجتمع السعودي متعطش إلى "الترفيه" لكنه لا يبحث عن الترفيه العبثي بل يحرص بشكل كبير على أن يجمع معه "التعليم"، ولعل هذا ما يبرر حشود النساء والأطفال التي كانت تملأ قاعات المعرض. توقفت كثيرا عند قاعة "السلامة" التي تعلم الزوار مبادئ السلامة المرورية على وجه الخصوص في خطوات بسيطة وعملية. أعتقد أن مثل هذه المهرجانات ستغير من الثقافة المجتمعية لو استمرت طوال العام وسوف تتيح لأكبر عدد ممكن من المواطنين والمقيمين كي يتعرضوا لهذه التجربة التعليمية المهمة. في الرياض وصل عدد الزوار لما يقارب النصف مليون في 24 يوما وهو ما يعني أن هناك أكثر من 20 الف زائر يوميا للمعرض، أي أكثر من الذين يحضرون مباريات الهلال والنصر أو الأهلي والاتحاد هذه الأيام، وهذا في رأيي اختراق "ثقافي" كبير يبين أن المجتمع السعودي يتوق إلى الثقافة الترفيهية الجادة ويمكن أن يتحول إلى مجتمع متذوق للعمل الفني والترفيهي الملتزم. أرامكو أقامت ثلاثة مهرجانات في الصيف في كل من الرياضوجدة والدمام، وفي اعتقادي أن المشكلة الثقافية غالبا ما تقع في المدن المتوسطة والصغيرة التي غالبا ما تكون محرومة من هذه الفرصة التثقيفية الأمر الذي يجعل من المواطنين الذين يسكنون تلك المدن اقل عرضة للتثقيف الفني، وكان من الأجدر أن يكون هناك برامج تنتشر في جميع مناطق المملكة تعنى بجانب التعليم من خلال الترفيه. على أن هذه الشركة الخلاقة تحاول أن تقوم بدور اجتماعي مهم، وهذا ليس جديدا عليها، فقد ساهمت في بناء النقلة التعليمية في المنطقة الشرقية منذ أكثر من ثمانين عاما، ومازالت مدارس أرامكو هي الأفضل على الاطلاق، وهي تقوم حاليا ببناء مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي وهذا المركز سيكون له دور كبير في تأصيل مفهوم "الثقافة المجتمعية" خصوصا وأنه يعتني بالمسرح كثقافة تعليمية / ترفيهية ملتزمة. في عيد الفطر المبارك تلقيت دعوة أخرى لحضور مهرجان العيد في الظهران، والحقيقة أن الحضور مذهل، كما كان في الرياض، والمرأة السعودية بمشاركتها القوية والفاعلة في مثل هذه المهرجان تؤكد كل مرة أنها أكثر التزاما بقضية التربية والتعليم والثقافة الاجتماعية. ما يميز مهرجان العيد هو وجود المسرح، وقد حضرت عرضا رائعا لفرقة سعودية حازت على المركز الأول في برنامج (آراب جت تالنت) وهي فرقة "خواطر الظلام". المدهش حقا هو الجمهور الذي كان متعطشا للعمل المسرحي، التفاعل كان رائعا وراقيا، وهذا ما أؤكده دائما، فنحن نحرم مجتمعنا من التعلم ومن اكتساب الخبرة الثقافية المدينية وبعد ذلك نتهمه بالجهل ونصفه بصفات سلبية، هذا أمر غير عادل ولا يستحقه ابناؤنا وبناتنا. ذكر لي الزميل المهندس فؤاد بن فهد الذرمان، وهو أحد المسؤولين عن تنظيم المهرجان، بأن أرامكو عادة ما تتبنى المواهب السعودية الشابة وتعطيهم الفرصة الكاملة من أجل بناء قدراتهم ومواهبهم، وأكد لي أن مركز الملك عبدالعزيز سيكون ملجأ للموهوبين السعوديين الحقيقين من كافة مناطق المملكة، فمثلا فرقة خواطر الظلام لم تقدم أي عرض في المملكة بعد فوزها بالمركز الأول، وهذا يجعلها تفقد كثيرا من مهارتها، ومشاركتها في مهرجان العيد أتت عن قناعة بأن هذه المواهب يجب أن تنمى وتطور ولن يحدث هذا ونحن لا نملك مسارح ودور سينما ولا يوجد لدينا برامج تعليمية / ترفيهية طوال العام. على أن أرامكو ليست هي المسؤولة عن هذا العمل وكان الأولى أن تقوم وزارة التربية والتعليم بهذا الدور، ولا أعلم لماذا لا تتحرك هذه الوزارة التي يفترض بها أن تعلم "المجتمع" وتصنع ثقافته. أذكر أنه كان لدينا مسرح في ثانوية الهفوف في مطلع الثمانينيات الميلادية، وكان هذا المسرح حقيقيا، اي أنه كان لدينا فرقة مسرحية تقدم عروضا خلال العام (وإن كانت قليلة) لكنها في حفل نهاية العام الدراسي كانت تقدم عملا مسرحيا متكاملا. المسرح المدرسي انتهى هذه الأيام فقد تخرج ابنائي من الثانوية العامة خلال العشر سنوات الماضية ولم يذكر لي أحد منهم أي شيء عن المسرح. والحقيقة أن المسرح المدرسي لم يقتصر على الثانوية، وأذكر أن المدارس الابتدائية في الهفوف كانت تتبارى في تقديم الاعمال المسرحية الطلابية في منتصف السبعينيات وقد شاركت شخصيا في أحد الاعمال في مدرسة الملك فيصل الابتدائية بمدينة الهفوف (1976م) وكان من يشرف على الفرقة في ذلك الوقت الممثل أحمد النوة والذي كان يدرسنا مادة العلوم في نفس الوقت. فقدنا المسرح المدرسي كما فقدنا اشياء كثيرة جميلة. يحدثني أحد الزملاء من حوطة بني تميم ويسكن الرياض، بأنه مصدوم من "الرحلات المدرسية" التي يقوم بها ابناؤه، فهي ليست ذات قيمة، ويذكرني برحلة مدرسية قام بها عندما كان طالبا في الثانوية إلى الاحساء، فما زال يذكر الوجوه ويتذكر عين الخدود ويتذكر المزارعين الذين كانوا يقدمون لهم الخضار والفواكه، يقول ان مثل هذه التجارب لم تمر على ابنائه فكيف يمكن أن يتعلموا شيئا عن بلادهم، وكيف يعرفون أنهم ينتمون لبلد كبير فيه جغرافيا وثقافات متعددة. في اعتقادي أن وزارة التربية والتعليم يجب أن تتعلم من تاريخها السابق، فقد كانت أكثر تأثيرا من الناحية الثقافية في السبعينيات والثمانينيات، وتراجع دورها بشكل مذهل منذ منتصف الثمانينيات وحتى اليوم. ما يجب أن تقوم به الوزارة هو استعادة الفرق المسرحية المدرسية بحيث يكون هناك مسابقات على مستوى المناطق وعلى مستوى المملكة في العمل المسرحي المدرسي، كما يجب أن تلزم المدارس بحفل سنوي تكون فيه عروض مسرحية. هناك الكثير الذي يجب أن تقوم به وزارة التربية ولا يسعني المقام هنا لذكرها، ولكن يجب أن تعي الوزارة أن الثقافة المجتمعية هي جزء من مسؤوليتها، وأنها في عصر تخلى العالم فيه عن التعليم التقليدي وتبنى مفهوم "التعليم عن طريق الترفيه"، وهذا يتطلب عقولا مختلفة ربما لا تكون موجودة في الوزارة الحالية.