ربما يكون من المفيد حقا أن نفهم كيف يرى الروائيون العرب قيمة التراث العمراني، وكيف ينظرون لتاريخ مدنهم وأهمية المحافظة عليها. كيف صور هؤلاء الروائيون نظرة المجتمع بشكل عام للقيمة التاريخية المعنوية لهذا التراث وكيف تفاعلوا معها داخل الحارة والزقاق والبيت العربي التقليدي، خصوصا وأننا نرى أن المواطن هو من عليه واجب المحافظة على هذا الإرث التاريخي لأنه يعيش داخله ويتفاعل معه بشكل يومي. يتحدث الروائي المصري محمود الورداني في روايته «أوان القطاف» عن مجموعة قلاوون في شارع المعز ويقول «هذه أقدم مجموعة متكاملة ولو فشلت جهود الترميم لفقدنا ما لا يمكن تعويضه. في النهار - يجب أن ترى المكان في النهار - ستكتشف سحر مجموعة قلاوون. وستكتشف إيقاع العمارة والعلاقات المحسوبة بين القباب والأعمدة والمآذن والمداخل والأبواب». والحقيقة أن المدينة العتيقة لها سحرها الخاص وهي مصدر إبداع، وملتقى الحنين لمفقود غامض ومكان للهروب من واقع محزن. يصف الروائي يوسف إدريس المسجد الأزهر في روايته «قاع المدينة» ويقول «وجامع الأزهر يبدو عاليا مغبرا أحجاره كبيرة - الحجر يبني بيتا - وجداره متين تملؤه الخرابيش والحفر ولا يهتز بما حوله، ويشهد الصراع القاتل من مئات السنين ولا يحرك ساكنا ولا يستطيع ساكن أن يحركه...». ودون شك فإن للمناطق العتيقة في المدينة العربية تقاليدها كما أن لها عبقها الذي لا يمحى من الذاكرة، فكما يقول إحسان عبدالقدوس في روايته «لا تطفئ الشمس» «ليس هناك تقاليد صحيحة وتقاليد خاطئة، ولكن الصحيح والخطأ في كل تقليد...». والعمارة العربية التاريخية بكل مخزونها الانساني تعبر عن هذا الصح والخطأ عن الجميل وغير الجميل وعن تفاصيل إنسانية كثيرة وبسيطة يجب أن نتذكرها ونحفظها. يذكر يحيى حقي في روايته «قنديل أم هاشم» جزءا من هذه التقاليد في منطقة السيدة زينب في القاهرة، ويقول «وهكذا عاشت الأسرة في ركاب الست وفي حماها: أعياد الست أعيادنا ومواسمها مواسمنا، ومؤذن المسجد ساعتنا». تذكرني العبارة الأخيرة على وجه الخصوص كيف كانت الحارة القديمة مرتبطة بالأذان وبمواقيت الصلاة، حتى أن أسلوب الحياة وتقاليد التزاور مبنية على مواعيد الصلاة، فإذا دعوت ضيفا إلى البيت بعد المغرب فأنت توحي له بأن الدعوة قصيرة فهي محصورة بين المغرب والعشاء وهو وقت قصير إما إذا قلت له بعد «الأخير» والمقصود هنا بعد صلاة العشاء فالدعوة مفتوحة. ويؤكد حقي في نفس الرواية أن الأماكن لها أصوات فهل هناك مستمع، «إذا أصخت السمع وكنت نقي الضمير فطنت إلى تنفس خفي عميق يجوب الميدان». ويبدو أننا لا ننصت ولم نتعلم كيف تتحدث الامكنة وكيف تبثنا مشاعرها. والعجيب أنه تتشابه كثير من المصطلحات في المدينة العربية فمثلا في مدينة الهفوف (شرق السعودية) الزقاق المغلق النهاية يسمى «سكة سد» وهو ما يشير إليه يوسف ادريس في روايته «قاع المدينة» «ويسأل عن الحارة السد ومتى يصلون، ويجيب فرغلي أنهم فيها، في الحارة السد، وأن بيت شهرت قريب على بعد خطوات، ويمضون وتحف بهم نظرات مستغربة تتوجس، وراء كل نظرة كلمة «غريب» ووراء الغريب تساؤل، ووراء التساؤل خطر...»، لم يكن الغريب يستطيع أن يمر في الحارة مرتين وإلا أوقف وربما واجه مشكلة كبيرة. السكة السد كانت من أكثر أجزاء الحارة العتيقة خصوصية فهي غالبا تنتهي بمجموعة من البيوت يملكها ويسكنها مجموعة أسر من عائلة واحدة وفي كثير من الاحيان لها باب خاص يغلق عليها في المساء. وتشابه المصطلحات لا يتوقف عند العناصر المعمارية فقط بل هناك العديد من الكلمات التي تمثل إشارات لتشابه أسلوب الحياة في تلك البيئات التاريخية التي ملأت المدينة العربية حياة. يقول الروائي المصري خيري شلبي في روايته «رحلات الطرشجي الحلوجي» «تلقيت دعوة شخصية من المعز لدين الله الفاطمي لتناول طعام الافطار على مائدته، أو سماطه كما ورد في الدعوة... وذلك بمناسبة أول رمضان قاهري خالص، أو بمعنى أصح أول رمضان تشهده القاهرة». وكلمة «سماط» على وجه الخصوص فيها دلالة على الكرم، وليس هذا هو بيت القصيد بل ان هذه الكلمة تستخدم في الجزيرة العربية بشكل موسع خصوصا في الاحساء وفي نجد، وهي تدل على المائدة الكبيرة كما أنها تدل على السفرة التي يوضع عليها الطعام. ما أود أن اقوله ان الثقافة العربية العمرانية مليئة بالتفاصيل الاجتماعية غير المكتشفة التي تحتاج منا أن نعمل على كشفها وإظهارها. تذكر الدكتورة سامية محرز في كتابها «أطلس القاهرة الأدبي أن الجغرافيا هي «أيديولوجيا: وحين يسجل كل واحد أو كل واحدة، من الكتاب حاضر وماضي، حي معين أو منطقة معينة، نجد أنه يدون على الخارطة التي ينتجها انحيازاته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والجمالية، وهي ترى أن الجغرافيا الأدبية وسيلة لطرح اسئلة جديدة والتطلع إلى إجابات جديدة. ويذكر الروائي المصري جمال الغيطاني أن الكتابة ترتبط بمكان محدد «بتاريخ هذا المكان وماضيه، وروحه. وأن تهتم بالزمان، ومرور الزمان، يعني أن تهتم بمكان محدد أيضا. ذلك أن الزمان والمكان مرتبطان على نحو لا مفر منه». والحقيقة أن جزءا من هذه الجغرافيا هي «معالم المدينة» وأنا هنا أتحدث عن «جغرافيا المدينة» التي هي اساس لكثير من الاعمال الادبية، وأعتقد أنها معنية بفكرة «حكاية المكان»، ومعنية أكثر بجغرافيا «التراث العمراني» في المدينة، وما نفكر فيه حقا هو أن كل مكان يختزن العاطفة الخاصة به، ليس بصفته المادية، بل من خلال الحكايات التي يحملها في داخله تجعل منه صورة بين الواقع والمتخيل، لكنه «جغرافيا» لها تضاريسها التي يمكن وصفها والتحقق منها. في اعتقادي أن التراث العمراني هو أحد معالم المدينة المهمة والأساسية لكنه أيضا من ضمن المعالم التي يمكن أن نراها على أنها، كما تؤكد محرز، «ليست مجرد نتاجات مادية واقعية يمكن للجميع فك مغاليقها وقراءتها بالقدر ذاته من النفاذ. والحقيقة أن النفاذ إلى هذه العلامات المدينية وقراءتها يتوقفان على مواقع القراء المدينين أنفسهم». الفكرة هنا أن بعض المعالم تكون لسكان المدينة بمثابة الذاكرة الجمعية التي يستنجدون بها عندما يتحدثون عن هويتهم، وهذا ما يعبر عنه التراث العمراني في أغلب الاحيان، بينما يكون هذا التراث مبهما بالنسبة للزائر، وهذا أمر طبيعي، الغموض هنا في حد ذاته جزء من متعة الزيارة ويفترض أنه يثير الفضول. «جغرافيا التراث العمراني» هي جزء من الجغرافيا المدينية وأحد مفاتيحها الرئيسية، بحيث تجعلنا نقرأ المدينة بشكل افضل وتساعدنا على رصد شخصيتها والتحولات التي جرت فيها، ومع ذلك يجب أن نؤكد هنا أن أي قراءة لمعالم المدينة (سواء من قبل سكانها أو زوارها) تظل غير منتهية وتبقى في حالة قابلة لإعادة القراءة كل مرة بصورة مختلفة، لأن موقف كل منا من هذه المعالم مختلف عن موقف الآخر، فالمسألة هنا ليست مرتبطة فقط بالصورة المادية التي يقدمها لنا التراث العمراني بل بالموقف الشخصي لكل منا من هذا التراث وكيف ينظر له كل واحد منا ويفسره ويصنع دلالاته الخاصة به.