دخل جرير الخطفى على عبدالملك وألقى إليه قصيدته العينية الرائعة التي مطلعها. بان الخليط برامتين فو دعوا أو كلما جدوا لبين تجزع تقول الرواية كاد عبدالملك يزحف من مكانه من جمال تلك القصيدة حتى إذا وصل الشاعر إلى قوله. وتقول بوزع قد دببت على العصا هلا هزئت بغيرنا يا بوزع ذهبت حماسة الخليفة واستمتاعه بتلك الأبيات العذبة وتحول إلى مستنكر معاتب للشاعر مشمئز من ذلك الاسم الذي أفسد عليه متعة الاستماع إذ قال بأسف (أفسدت شعرك بهذا الاسم). ولا شك أن القافية العينية هي التي أجبرت الشاعر على استخدام هذا الاسم الغريب وجعلته يضرب صفحاً عن الأسماء المعروفة في الغزل مثل سعاد وأسماء ولبنى وليلى ومي.. الخ. فانظر إلى درجة إصغاء الخليفة لما يقوله الشاعر وعدم اقتصار اهتمامه بما يحفه به من مدح ومن المعروف أن قصيدة المدح تبدأ بالغزل ثم ينتقل الشاعر الى المدح بعد ذلك، ويفترض أن الخليفة لا يستمع إلا إلى ما يتعلق به من معاني وما يطربه من أوصاف ولكن الواقع غير ذلك فهو يستمع إلى القصيدة مجتمعة ويبحث عن الكمال فيها ويزعجه أن لفظاً غريباً يفتقر إلى الجمال الموسيقي يتخلل أبياتها. وقريب من ذلك ما حدث لأحد خلفاء بني أمية وهو يستمع إلى نصيب يمدحه ويقدم لمدحه مقدمة غزلية يقول في أحد أبياتها. أهيم بدعد ما حييت وإن أمت فواحزنا من ذا يهيم بها بعدي نجد الخليفة يستوقف الشاعر ويستبشع قوله ويطلب من الشعراء الذين حضروا المجلس تصحيح البيت فيقول أحدهم. تحبكم نفسي حياتي فإن أمت أكل دعداً من يهيهم بها بعدي فلا يعجب الخليفة هذا البيت أيضاً ويتوالى شعراء في تعديل البيت ولكن ذلك كله لم يعجبه وحين عيل صبرهم قالوا: ما أنت قائل يا أمير المؤمنين لو كنت مكانه؟قال : أقول تحبكم نفسي حياتي فإن أمت فلا صلحت دعداً لذي خلة بعدي فأجمع من في المجلس من الشعراء أن الخليفة أجودهم شعراً وأكثر علماً. لا شك أن الخليفة كان يبحث عن المعنى الأخلاقي في البيت ومن الغريب أن الشاعر نفسه لم يقتنع لا برأي الخليفة ولا برأي جمهور الشعراء الذي تعاوروا على تصحيح بيته فبقى البيت في ديوانه على صورته الأولى. وكان البيت من الشعر يستوقف الخليفة ويتناقش فيه مع من عرفوا بتذوق الشعر ونقده من ذلك ما حدث في مجلس الرشيد حين استمع إلى ا لأصمعي ينشد قصيدة للنابغة الجعدي يقول في أحد أبياتها مادحاً. ونلاحظ تأكيد الأخطل على أن هذا المجد لم يكن مغتصباً وربما ذلك هو رد على أعداد الأمويين الذين يعتقدون أنهم اغتصبوا الخلافة من العلويين وربما كان الخليفة بحاجة إلى إثبات أحقيته في الملك أكثر من حاجته إلى إبراز شجاعته ومن هنا فقد فطن إلى مراد الشاعر ووصله. وهكذا كان الشعر مدار نقاش وحوار وكان الشاعر يعلم أنه حين يقول بيتاً فإن الف أذن ستفتح للاستماع وألف ذوق سيسهم في التقويم. يقول الأصمعي «لا يصير الشاعر في قريض الشعر فحلاً حتى يروي أشعار العرب ويسمع الأخبار ويعرف المعاني وتدور في مسامعه الألفاظ. وأول ذلك أن يعلم العروض؛ ليكون ميزاناً على قوله؛ والنحو ليصلح به لسانه ويقيم به إعرابه؛ والنسب وأيام الناس؛ ليستعين لذلك على معرفة المناقب والمثالب وذكرها بمدح أو ذم» فالشاعر يبذل جهداً كبيراً في تثقيف نفسه فلا عجب أن يكون له من الاعتزاز بهذا الشعر ما يوازي ما بذل فيه من جهد.