متعة كبرى أن نقرأ تاريخ المنطقة والمكان عبر عيون أجنبية خارجية، فتلك القراءات من شأنها أن تحرك مألوفنا، وتلتف على وعينا، وتلتقط صورا للواقع تخالف منظور النافذة التي اعتدنا أن نطل منها. وليس هذا فقط بل تجعلنا نتعرف على التفاوت الكبير في وجهات النظر والتفاسير تبعا لاختلاف الثقافات وطبيعة مقاربتها للعالم الخارجي، فتظل منطقتنا عصية على التنميط، القولبة، أو التفسير الأحادي. وفي هذا المجال قرأت ثلاثة من الكتب في فترات متقاربة أولها كتاب (العرب وجهة نظر يابانية) للكاتب الياباني (نوتو هارا)، والثاني كتاب المستشرق (محمد أسد) الطريق إلى مكة، والثالث كتاب (المملكة من الداخل) لروبرت ليسي. الكتاب الأول كتبه المستعرب اليابني (نوتو هارا) بعد أن أمضي 35 عاما بين العرب مطلعا على حضارتهم، منقبا عن ثقافتهم، مندمجا في حياتهم اليومية باستغراق، لكن من يقرأ الكتاب يشعر بأن الكاتب مازال في طوكيو، وأن المستعرب الياباني لم تغادره عين السائح المندهشة والمصنفة في الوقت نفسه، وعلى الرغم من أنه طوال صفحات الكتاب كان يعلن أنه لابد أن يتخلى عن وعيه المسبق كياباني وينظر للمنطقة بحياد واستقلالية واحترام لطبيعة الثقافة لكنه لم ينجح في هذه المهمة، وكان طوال الوقت ينصب محاكم صغيرة خفية تحاكم العرب وأسلوب تعاطيهم مع الحياة ونمط تفكيرهم وإدارتهم لمشاكلهم والتزامهم بقيم العمل وازدواجيتهم ما بين الشخصي والعام، ولعله منذ البداية قد حسم هذا الموضوع عبر عنوان كتابه الذي يشير إلى (وجهة النظر اليابانية) أي العرب وهم فوق الميزان الياباني، بالطبع قد مالت كفة الميزان الياباني ضدهم، وفي النهاية يجد القارئ العربي نفسه يتحايل على الشعور بالغبن والحزن بعد الانتهاء من الكتاب ليرجع الموضوع إلى نظرية (النحلة والذبابة) فالنحلة لا تسقط إلا على الأزهار وكل ما هو مبهج بينما الذبابة لا ترى حولها إلا القاذورات، ولعل هذا التفسير القاسي هو بعض من ميكانيزم الدفاع التي نتخذها ضد الآخر المتطفل. لكن الأجنبي ليس دوما بهذا السوء فكتاب (الطريق إلى مكة) للمستشرق اليهودي النمساوي الذي أسلم (محمد أسد) هي رحلة روحانية مثالية يتصعد فيها المؤلف عبر نفس صوفي شفاف في رحلته داخل الجزيرة العربية والعالم الإسلامي بحثا عن الإجابات وبحثا عن الترياق الذي يطفئ حريق الشك والأسئلة داخله، يرافقه القارئ في هذه الرحلة الأخاذة الماتعة، لينتهي إلى تقدير وإجلال الكاتب الذي استطاع ان يتحرر من وعيه المسبق ومن ماضيه ومركزيته الأوروبية في تفسير العالم وتصنيفه، واستسلم إلى رحلة اكتشاف ضارية كان فيها لا يحاكم لا يصنف بل ينطلق من تلك الأرضية البشرية الأولية البسيطة التي تقف فوقها البشرية جمعاء، لا أدري هنا هل كونه يهوديا وشبه طارئ على الثقافة الأوروبية جعله يتخلص من أرديتها بسهولة لينغمر في رحلة قوافل الشرق، لا أدري، ولكن الكتاب يعكس رؤية كاتب كان يعشق الشرق بطريقة مثالية متبتلة. الكتاب الأخير وهو "المملكة من الداخل" للصحافي والمؤرخ البريطاني روبرت ليسي، حيث كتب عن المملكة من الداخل وهو في أقصى الخارج، ولم يتحرك من قاعة المحاضرات في كيمبردج، فالكتاب مكتوب للقارئ الغربي، وتستطيع أن تتلمس ذلك النفس الساخر المشوب بالفوقية بين صفحات الكتاب حول المكان وسكانه، وتستطيع أن تلمس المركزية الأوروبية الاستعلائية في تصنيف العالم حولها، والكتاب في حقيقته يحتوي على كم هائل من الجهد المركز، وسنوات من العمل الجاد والموثق وكم هائل من المعلومات واللقاءات والمراجع الموثقة التي تخاطب قارئا أكاديميا غربيا متفحصا، ولكن للقارئ العربي سيلمس نفس المقاربة وزاوية النظر المعهودة التي نراها في فيلم وثائقي ل (بي بي سي)، حيث المتعة والدهشة وأيضا المركزية البريطانية الفاقعة. الاطلاع على تاريخ المنطقة من الخارج مغامرة معرفية مشوقة، فهي تظل بضاعتنا ردت إلينا.. لكن بعد أن صبت في قوالب جديدة ومختلفة لنمطية تفكيرنا حولها.