لم يدر بخلدي وأنا أتنقل من محاضرة لأخرى في هذا المؤتمر المتخصص في علم الأعصاب أن إحدى المحاضرات الرئيسية ستكون عن التأثير الايجابي لألعاب "الأكشن" الكومبيوترية. ساعة كاملة انتقلت فيها المتحدثة من اختبار ذهني لآخر وهي تشرح نتائج التجارب التي قام بها فريقها البحثي في اختبارات تركيز وتعلم مختلفة لدراسة مدى تأثير هذه الألعاب على التركيز البصري والقدرة على الانفصال عن المؤثرات الخارجية والتي تسبب تشتت التركيز، وهي مجرد عاملين فقط من عوامل كثيرة تستدعي البحث والدراسة. ولأنني من جيل سوبر ماريو ولعبة "تترس" ومن الذين سمعوا كثيرا وكثيرا عن ضرر ألعاب الأكشن الكومبيوترية ورددوا ما سمعوه، كنت أتوقع أن نتائج الدراسة ستكون في صالح من هم مثلي ممن لا تتجاوز علاقتهم بالكومبيوتر سوى تصفح الانترنت واستخدام محركات البحث في محاولة للحصول على إجابة سريعة لسؤال مفاجئ، فقد كنت أتوقع ساعة كاملة من الحديث عن الضرر الشامل والمدمر لهذه الألعاب، لكنني تفاجأت بالباحثة وهي تسرد تفاصيل إحصائية عن الدور الذي تقوم به هذه الألعاب في زيادة التركيز البصري وفي سرعة الاستجابة البصرية، مما جعل البعض يستخدمها في العلاج لبعض الحالات التي يعاني أصحابها من عدم التنسيق البصري بين العين اليمنى واليسرى والذين يحتاجون لعلاج تدريبي لتحقيق التناسق في استخدام العينين. تجارب مختلفة كثيرة خضع المتطوعون فيها لوقت مقنن ومحدد في ممارسة ألعاب "الأكشن" الكومبيوترية، تم بعدها إخضاعهم لتجارب في التركيز البصري تحت وجود مؤثرات خارجية هذه التجارب في مقارناتها كانت تصب في صالح ممارسي هذه الألعاب. طبعا كانت ممارسة الألعاب لساعات محددة قليلة وليست لوقت طويل، مما دعا لاستنتاج حول التأثير الايجابي لاستخدام هذه الألعاب بطريقة مقننة - و أشدد على كلمة مقننة - لتطوير القدرات التعليمية والمهارات لدى الاطفال مثلا ولزيادة القدرات في التركيز لدى كبار السن مثلا ممن قد تقل مهاراتهم نتيجة أمراض الشيخوخة. كما قلت لكم ساعة كاملة شرحت فيه الباحثة التجارب التي قاموا بها، والأدوات التحليلية التي استخدموها والبروتوكلات التقيمية التي اتبعوها، وهي تنتقل بين فكرة وأخرى، وسؤال علمي وآخر. هؤلاء الباحثون يهتمون بجزئية صغيرة تعنى "بآلية التعلم" في العقل البشري، ويختصون بدراسة التركيز البصري كعامل من عوامل التعلم، وهي جزئية بسيطة إذا نظرنا للعقل البشري بتجرد وإذا نظرنا له في نطاق وظيفته في التعلم والتدرب والتفكير. طبعا لا يعني هذا أن هذه الألعاب الالكترونية لها تأثير إيجابي دائم وعلى جميع النواحي، فهناك دراسة اجتماعية عن التأثير السلبي على قدرات التواصل الاجتماعي مثلا بالاضافة للاثار الصحية المختلفة، لكن وهنا يجب أن أركز بأن هذه الباحثة تتحدث عن جزئية محددة ولا تنفي الآثار المضرة للاستخدام غير المقنن لهذه الألعاب، والسؤال هو، هل دخل العقل البشري مرحلة تعلم جديدة مع التغير التقني المحيط به؟ وكيف يمكن أن نستخدم هذه التقنيات وهذه النتائج بطريقة تساعد وتساهم في زيادة القدرات التعليمية والتركيز في منظومة التعليم؟