لعل أحد معرفات مفهوم التمحور هي : جعل الشيء مهماً لدينا ومدار حديثنا واهتمامنا وشاغل تفكيرنا وعليه يدور هذا التفكير. انظر مثلا الى المجموعة الشمسية، تجد محورها مركزها ووسطها وفيه الشمس فنقول إن كل كواكبها فيما نعلم تمحورت حول الشمس، وكلها دائرة في أفلاكها ولكن حولها مرتبطة بجاذبيتها، وهذا المشهد تقريب لفكرة التمحور المعنوي والهاجس في ذهن وتفكير الفرد شاعرا كان أو كاتباً. يأتي إذا التمحور بالنسبة لإنتاجنا حول أشياء عديدة لا يمكن حصرها، ولكن يمكن التمثيل ببعضها، فهناك التمحور الفردي والجماعي والمعنوى كاحساس وشعور، أو تمحور حول اللغة أو المعاني والألفاظ، ويأتي التمحور حول القبيلة أو الوطن أو الفضيلة أو القيمة أو المبدأ أو أي رمز، وكل منها يطلق عليه تمحور، سواء كان هذا التمحور حسناً تمحورنا حوله أم سيئا، مقبولا أو مرفوضا، أو يؤدي الى بناء، أو العكس ربما يؤدي الى الهدم. وفي المقابل هناك حركة مضادة لمثل هذا التمحور قد نطلق عليها تكسير لهذا التمحور إما بقصد بناء جديد يراد له أن يقام على أنقاضه ما هو بديل، أو بقصد العداء له فقط، أو عن جهل بنتائج ذلك التكسير، وربما بسبب الكبر والاعتداد بالنفس بدرجة أكبر وربما بدافع الانتقام أو الغيرة أو التنافس أو الصراع على القمة والمقدمة. ويهمنا هنا ألا نتوسع في نقاش هذا بل نقصر القول على الشعر دون بقية النتاج الأدبي وغيره. ويمكن والحالة التي تبينت من مفهوم التمحور أن نقول إن الميادين التي يدور الشاعر في فلكها ويتمحور حولها عديدة، والكثير منها مقبول ومراد ونشجع عليه وهو لازم وضروري، وبعضها مرفوض جدا ويقصم ظهر الشعر وصاحبه أو يذيبه ويميته أو على أقل تقدير يعزل الإنتاج في زاوية النسيان. فمن التمحور التحديد الصغير والبؤرة ومن ذلك النرجسية بجلابيب كثيرة كالفخر والمديح وحب الظهور، ومنها الشمول وهو ضدها، ومنها التفرغ للتحطيم و مادة التحطيم والتكسير هو: الهجاء والسب والشتم، ومنها التحقير والمغالبة ومحاولة التقليل وزعزعة الثقة، وكلها تدخل ضمن مسألة تكسير التمحور الذي لدى الطرف الآخر. فالمدح والفخر بالشيء بداية تمحور حوله وعنوان له وطرف من النرجسية، بينما الهجاء رفض وتكسير لمثل هذه النرجسية والتمحور. في كلا الحالتين واعني: التمحور على الشيء وتكسيره، نحن في حاجة له، متى ما كان له نفع وفائدة ويوصل الى الفهم والنفع و الابداع. لا تستغرب عندما تقرأ الاعتراف بأننا نحتاج إلى التكسير وندعو إليه، فالهجاء غرض من أغراض الشعر لا يمكن إنكاره، لكنه في حالة التمحور حوله يعد منقصة، ولكنه عندما يستخدم كتكسير للتمحور يعد منقبة، فالشاعر الذي يهجو لمجرد العداء ورشق الآخرين تمحور على خطأ وصار سليط اللسان ويوصف بأنه شاعر هجاء، ويرفض اجتماعياً ولا يصدق كلامه ولا يقبل شعره، ولكنه عندما يستخدم الهجاء كتعديل لمسار وتصحيح لخطأ ودفاعاً عن الحق وتعديل لعوج فإنه يشاد بصنيعه لأنه يبني بعد تكسير مضاد للتمحور. وبالتالي فإن شاعراً مثل هذا لا يكون همه أصلًا الهجاء لولا إثارة الموقف باتجاه إيجابي وبمعيار حقيقي صادق وليس هوى. والعكس صحيح بالنسبة للهجاء نقف ضده متى بات هادما نكوصا شادا الى الداخل وانزواء وتقوقعا ووهما أو انتفاخاً وتورما ضاراً بصاحبه والمجتمع والأدب نفسه. ونأخذ سمة من سمات وصفات التمحور أيضا وهي: النرجسية. و تعني اهتمام الشخص بنفسه فقط ورؤيته لها دون غيرها، وتنسب الحالة إلى أي النرجسية إلى زهرة النرجس حيث تنحني وكأنها تنظر إلى نفسها في صفحة الماء الذي يمر تحتها وتعجب بصورتها دون رؤية غيرها أو اعتبار الآخرين. في بعض الأحيان نحتاج من الشاعر إلى أن يأخذ بطرف من النرجسية وشيء منها لضرورة ذلك في نبع أحاسيسه، فالنرجسية المعتدلة فيها عذوبة ودافع وداعم قوي لمعظم قصائد البوح الصادق وتعد حافزا للشاعر فهو في قرارة نفسه يحتاجها ولو ادعى غير ذلك وفقدها بالكلية ليس مستحسنا، ولكن المبالغة فيها تدخله بؤرة التمحور على الذات وتعمقه في نفسه، فينزوي ويتقلص تأثيره ويكون إنتاجه غير منتشر بل ينجذب إلى الداخل بعيدا عن الأطراف والتمدد والانتشار ناحية ما يهم الآخرين وتقف عائقا دون ما يترقبونه منه و يشتاقون إليه مشاركة منه لهم ومنهم له، فتقوى الأنا وتتضخم أو تتورم أو تغلبه فلا ينفك منها، فيهبط عطاؤه أو يكره من الآخرين أو يعرض نفسه لما يتوقع وهو التكسير ليس بمفهوم الهجاء ولكن بمفهوم الضد. يتعرض للتكسير حتى ولو كانت مضامين شعره جيدة إلا انها تبقى من منطلق النرجسية قصيرة الأذرع قليلة الامتداد عاجزة عن الشمول، والمتلقي في الغالب لا يهمه ذات الشاعر والأنا عنده، بقدر ما يهمه مشاركته الأفق الممتد حوله.