هذه البلاد قبلة المسلمين، تهفو إليها نفوسهم، وتهواها قلوبهم، فالحديث عن شيء من ميزاتها، أو خصائصها ليس ترفا، ذلكم أنها مركز ثقل في الأمة، لو أصيبت بزلزال - لا قدر الله - لكانت هزته تبلغ مشرق الأمة ومغربها. فاستقرارها ليس محصورا في منفعتها، أو شعبها وأسرتها الحاكمة، بل هو استقرار للأمة، وسكينة في قلبها، وراحة لنفسها. وقد أصيبت هذه البلاد بمصائب كثيرة، حتى استهدفت في أمنها، واستقرارها، لا من أعدائها - وإن كانوا يتربصون - إذ إن الأعداء يعلمون أن أي تحرش بها سيصيبهم في مقتل، إذ ستهب الأمة جميعا نصرة لها، ودفاعا عنها. ولكن مصيبة هذه البلاد كانت بيد بعض أبنائها، ممن صعدوا على أكتاف التشدد والتطرف، ليس بدءا من حركتهم في محاولتهم احتلال الحرم المكي الشريف في آخر عام من القرن الهجري المنصرم. وكانت تلك الحقبة من الزمن أشد ما واجهته قيادة البلاد وشعبها، كما أظن، ولكن ما هون المصاب أن اختيار المعتدين للحرم نقطة انطلاق، وتخويفهم الطائفين والعاكفين والركع السجود، والحجاج والمعتمرين، وانتهاكهم حرمته، وقطع الصلاة فيه، وسفك الدم الحرام، في الشهر الحرام، والبلد الحرام، جعل الكفة لا نقاش فيها مع الدولة، ومهما كان من أمر الظلم المزعوم من قيادتها، أو البعد عن المنهج الشرعي، كما أراد الخارجون تصويرها، فإن العاقل لا يمكن أن يقارن بين من يحمي الحرم وبين من ينقض كل حرمة له، فلا وجه للمقارنة بين من يسقي الحجيج ويقوم على رفادتهم، وحمايتهم، والتيسير عليهم، وبين من لا يبالي بدمائهم، ولا بأقدس بقعة عندهم، فكانت الكفة واضحة الرجحان في صالح هذه البلاد وحكامها. ثم هدأت الأمور تقريبا، حتى دعي إلى الجهاد ورفعت رايته في أفغانستان، ثم دارت الأيام وجاء بعض أبناء هذه البلاد الذين كانوا هناك يقاتلون العدو الكافر المحتل، فنقلوا ساحة القتال إلى قلب الوطن الغالي، ووجهوا سهامهم إلى نحور المسلمين المسالمين، بحجج داحضة وشبه واضحة، ففجروا وقتلوا، وحاربوا، وخططوا، فنال البلاد من جهلهم وضلالهم وأفعالهم ضرر كبير. القاسم المشترك في الأحداث كلها، أن صورة الخارجين واحدة، لحاهم، وثيابهم، وتفكيرهم، وبعضهم كان من طلبة العلم عند بعض المشايخ المعروفين. وقاسم مشترك آخر، هو أن وزير الداخلية في كل تلك الحقبة كان نايف بن عبدالعزيز، رحمه الله. وكان هناك ثبات في مواجهة الأحداث، أركز هنا في واحد من أهمها، ربما أغفله كثيرون، ألا وهو أن القضية عنده لم تكن لتجاوز أصحابها، وكل من له صلة بهم من أب أو أخ أو قريب أو صديق، لم ينله من جراء ما وقع فيه أولئك أي بأس، فكان تطبيق القاعدة الشرعية القرآنية (ولا تزر وازرة وزر أخرى) كأحسن ما يمكن أن تطبق. فذاك القائد لحركة احتلال الحرم له من الأقارب والعشيرة والقبيلة كثيرون، لم يمسسهم ضر، ولم يتأثر أحد منهم، لم يشارك أو يعاون، أو يؤيد، سواء كان أبا أو ابنا أو أخا أو قريبا. وكذا كان في كل الأحداث التي واجهتها وزارة الداخلية في حياته رحمه الله، وهو ما لم يحدث في غيرها من بلاد الإسلام، التي نال كل قريب لأي ضال ما ناله من الأذى، ربما سلم الفاعل إذ هرب إلى بلاد أخرى، ولم يسلم أحد أصوله أو فروعه أو حواشيه. في بلاد أخرى - إسلامية - يؤخذ الأخ بجريرة أخيه، بل يؤخذ الشخص بجريرة صديقه، أو من يشبهه في التوجه، والشكل، فيحدث تفجير في منطقة ما فيجر إلى السجون الآلاف ممن يلتحي أو يبدو عليه سيماء الصلاح، وهم لم يعرفوا الفاعل ولم يروه ولو مصادفة، كل ذنبهم أنهم من تلك الفئة شكلا. في الوقت الذي كانت هذه البلاد قبل نايف ومعه، ملجأ للمضطهدين، وحصنا للمظلومين، ظلموا في بلادهم فوجدوا الأمن والاستقرار هنا في بلادنا، ومنهم من برز في العلم ووصل إلى مرتبة عليا فيه. كان نايف - رحمه الله - رجل أمن بكل ما تعنيه الكلمة، حمل الشعار العُمَري «شدة من غير عنف، ولين من غير ضعف» فطبقه أحسن ما يكون التطبيق، ففي الحق لا يحابي، وفي العواطف الإنسانية لا يمكنك أن تقول إن هذا هو وزير الداخلية. فقد ارتسمت صورة وزراء الداخلية في بقاع العالم الإسلامي والعربي بصورة الفظ الغليظ، صورة الظالم الذي يفتك بالناس، لا يهمه السجين بريئا كان أم مظلوما. فكان نايف - رحمه الله - صورة أخرى ترى فيها الحزم والعزم، وتلقى فيه الرحمة والتفهم، والحرص على العدل قدر الإمكان. ولا يعترضن أحد بأن في السجون من ظلم، فليس هذا هو المقصود، ولكن المقصود أن الظلم لا يقع إرادة وقصدا، فإن وقع فهو خطأ أو تجاوز، يسارع المسئول لرفعه متى علم به، ولا يرضاه ولا يقره. ساهم نايف - رحمه الله - في ردع المتطرف دينا، يرى قتل الأبرياء وسفك الدماء جهادا واستشهادا. ولم يقف به الأمر في ذلك الجانب فحسب، بل كان سدا منيعا في طريق المفسد ممن تطرف في الجانب الآخر، فظن أن هذه البلاد لا تقيم للدين وزنا، وأنها من الممكن أن تخلع عباءته، وتتغرب في أخلاقها وقيمها، وتتنازل عن مبادئها، وغاب عنهم رسالتها ومنزلتها، واستشكلوا رغبة قادتها في الرقي والتقدم فظنوا أن ذلك سيكون على حساب عقيدة والشريعة. لقد كان رحمه الله شديد البأس على هؤلاء وعلى هؤلاء، كان مسلما وسطا على الحقيقة، يأخذ من حضارة الغرب ما يفيد الدين والدنيا معا، فإذا عارضتهما أو أحدهما فلا مكان لها في هذه البلاد، وأرضها، ولا بين شعبها وحكومتها. ويخطئ الفريقان إذا ظنوا أن موت نايف سيفتح لهم المجال رحبا ليغرسوا رماح إفسادهم من جديد، فقد مات نايف جسدا، وبقيت روحه ومنهجه الذي ربى عليه «أشبالا» هم اليوم أسود آخرون للسنة، فلم يخل العرين من أسوده، وإن كان العرين قد فقد أحد أركانه وأشدهم بأسا في المفسدين وتنكيلا. رحم الله نايف بن عبدالعزيز، الذي فقدناه بلا مقدمات، فكان الجرح بفقده عميقا، فللفجاءة أثرها. ونقول له نم قرير العين فما بنيته، وما حرصت عليه طوال عمرك ثابت لم يتزعزع، وقد سلمت الراية إلى عضدك عقودا - أخيك أحمد - سيترسم خطاك، وسيحملها كما كنت تحملها، صدقا وأمانة وحرصا، وستظل راية الأمن خفاقة على ربوع البلاد التي كانت في سويداء قلبك، حتى وليت عهدها، ثم فارقتها، ما بدلت، وما توانيت، فنم نومة العروس، برحمة من الله ورضوان، في روضة من رياض الجنان، فأنت الآن بين يدي من وسعت رحمته كل شيء، وهو عند ظننا به، وما نظن به إلا خيرا، يعفو ويصفح ويتجاوز، فإلى لقاء برحمة من الله في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.