الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يختلفان زماناً ومكاناً ، ومن شخص إلى آخر ، ويرجعان في كثير من تطبيقاتهما إلى الحكمة التي هي ضالة المؤمن ، وهي هنا ملمح من ملامح السياسة الجديدة التي اختطها معالي رئيس الهيئة الجديد ، فلم يكن مألوفاً أن يتحدث رئيس الهيئة عن تجاوزات بعض أفرادها ، أو أن يسائلهم ويحاسبهم ، ويتحدث عن كل ذلك في غاية الشفافية ، وعلى مرأىً ومسمع من وسائل الإعلام . السؤال الذي يجدر بنا طرحه هنا هو: ماذا يريد الناس من الهيئة ؟ لعله من الأنسب إقامة حوار بينهم وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حوار عنوانه : ماذا يريد المجتمع من الهيئة وماذا تريد الهيئة من المجتمع ، حوار تُطرح فيه كل الإشكالات العالقة بين الطرفين التماساً لحلول عاجلة.. ولعل من مؤشرات التطور قضية فتاة المناكير إن جاز لنا تسميتها بذلك ، نظراً لشيوع تلك التسمية في الداخل والخارج . فللقضية جانبان ، الأول يخص رجل الهيئة في تعامله مع الفتاة ، وإصراره على إخراجها من السوق ؛ بسبب سفورها أو وضع مناكير على أظافرها ، وكان يكفيه نصحها ، وهو غاية ما تسمح به وظيفته ، كآمرٍ بالمعروف وناهٍ عن المنكر. وهذا يطرح إشكالية ما هو المنكر وما حدوده ومن الذي يحدده وفيمَ يكون؟ فهل المنكر هو ذلك الذي حدده الشرع وبينه أم هو ذلك الذي يجري التزيد فيه ويحدده رجل الهيئة ، ويعالجه كيفما أراد دون رقيب أو حسيب؟ كلنا نعلم أنّ المنكر الذي لم يحدده الشرع يختلف موقف الناس منه فما يراه البعض منكراً قد لا يراه البعض الآخر كذلك، ولهذا فإن المناكير لم يكن يوماً مدعاة للإنكار على النساء حتى في أشد سنوات عنفوان رجال الهيئة وسطوتهم في المجتمع ، كما أنّ بعضهم يجتهد فيجعل بعض الأمور من المنكر اعتماداً على العُرف كمسألة كشف المرأة عن وجهها ،فمع أنها مسألة خلافية إلا أنهم يجعلونها منكراً ؛ لأن غطاء الوجه من القضايا التي أقرها العُرف لا الشرع . والقاعدة تقول لا إنكار فيما فيه خلاف . وكان ينبغي عليه الرفق بها لا أن يصرّ على إخراجها من السوق لتكون عرضة لتحرش السائقين وغيرهم، في حال عدم وجود سائقها خارجاً ، ولهذا قيل : ليكن أمرك بالمعروف معروفاً ونهيك عن المنكر ليس فيه منكر، أي ألّا يعالج ما يراه منكراً بما هو أكبر منه ! كان عليه أن يستصحب الرحمة في تعامله مع فتاة ربما كانت في عمر أبنائه ، فهنالك بون شاسع بين أن تكره السلوك ، وأن تحقد على من يمارسه وتتربص به وتمارس عليه سلطاتك . إنّ أهم ما يتضمنه فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما قيمتا الرفق (ما كان الرفق في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه )، والرحمة ( الراحمون يرحمهم الله ) . هذا البعد التربوي في علاقة رجل الهيئة بأفراد المجتمع لو تحقق ، فمن شأنه أن يزيل كثيراً من الحجب التي تعترض سبل التواصل بينه وبين الناس . وللحدث جانب إيجابي – سواء اتفقنا مع الفتاة أم اختلفنا – هو انتشاره عبر وسائل التواصل الاجتماعي ، ما يعني أن الفتاة بقيت في السوق فلم يحملها رجل الهيئة ويجبرها على ركوب سيارتهم ، ويأخذها إلى مركز الهيئة كما كان يحدث سابقاً ، كما أنها تمكنت من التصوير بهاتفها وهذا يعني أيضا أنه لم يصادره ، ويفتشه كما هو المعتاد في حالات كهذه . ما يؤكد التزامه التعليمات الجديدة في هذا الصدد ، ولو كان قد تعامل مع الفتاة حسب الأسلوب القديم لما عرف أحد بما حدث . أما الجانب الثاني فهو موقف رئيس الهيئة من الموضوع ، فلقد اعتدنا على أن رجل الحسبة لا يُحاسب ولا يُساءل ، وكثيراً ما كان الآخرون يُدانون في القضايا التي تحدث ، أما رجال الهيئة فيخرجون منها كالذئب مع دم ابن يعقوب . فقد قال رئيس الهيئة في قضية فتاة المناكير- حسبما ورد في الصحف - : " ساءني كثيراً ما رأيته، وأن الموضوع ضخم، واستغل استغلالاً سيئاً، حتى سمع بها القاصي والداني، وأن المقطع شاهده أكثر من 1.1 مليون شخص، وأن هناك بعض الدول الغربية ترجمت المقطع، وأن تصرف عضو الهيئة ليس في محله، رغم تجاوز الفتاة، وأنه كان عليه نصحها، وعدم مجاراتها في الحديث، ثم تركها عند عدم استجابتها، وعدم التصعيد... " . وهذا مؤشر بالغ الدلالة على الشفافية ، وعدم الانسياق إلى إدانة الفتاة وتبرئة عضو الهيئة الذي كان عليه عدم تصعيد الموضوع ، والإمعان في ممارسة سلطته على الفتاة. وقد وصلت قضية فتاة المناكير إلى أمريكا ، حيث تولى بعض المنتسبين لجمعيات حقوق الإنسان ، وحقوق المرأة عرض المقطع الذي صورته الفتاة مترجماً، في اجتماع دعوا إليه عدداً من المهتمين، وأعقبت ذلك تعليقات غاية في السخرية والاستهزاء من الموقف ، مما جعلنا نشعر بالحرج ، ونؤثر الخروج ؛ لعجزنا عن إيجاد تبرير أو تفسير منطقي لما حدث . وأضاف معالي رئيس الهيئة أن " الإنسان إذا ابتلي بمجنون أو متهور يريد إيقاعه هل يكون كبش فداء؟ فالعالم وصل لصناعة الطائرات، ونحن نقول لامرأة اخرجي من السوق لأن في أصابعك مناكير"! . وأظنه لا يقصد - كما فُسر في بعض المنتديات - اتهام الفتاة بالجنون ، بل ربما يعني أنّ الكبير وصاحب السلطة يجب أن يتمتع بالرفق واللين والصبر على الآخر لاسيما صغار السن . ويضيف " ان العالم يصنع الطائرات ونحن لا زلنا عند المناكير" ! ونزيد بل العالم تجاوز صناعة الطائرات بمراحل ، ونحن ما زلنا ندور في فلك قضايا خلافية كتغطية وجه المرأة ، أو قضايا تقليدية صنعها ورسّخها الفقه المحلي كعباءة الكتف وعباءة الرأس . لقد كثر الحديث منذ سنوات عن أهمية إيجاد آليات لضبط عمل رجال الهيئة ، وأصبح ذلك مطلباً ملحاً لدى الكثيرين ، آليات لا تهدف إلى العقوبات والزجر والتنقيب في ضمائر الناس وإهدار حقوقهم وانتهاك كرامتهم ، بقدر ما تسعى إلى ضبط سلوك المخالف بالحسنى ، ولعل ما ذكره رئيس الهيئة لدن اجتماعه بأعضائها يتسق مع هذا المطلب ، حيث قال : إن العضو الذي يظلم المواطنين أو يتصيد ويتعدى عليهم لا مكان له في " الهيئة " ، وهذا ما جعله يستغرب ساخراً من افتخار أحد الأعضاء بالقبض على خمس عشرة امرأة في يوم واحد، قائلا : "هل معه باص، يمسك الناس" ، مبيناً " أنه لا يسعده القبض على أحد، وأنه يفرح بأن تحل القضايا التي يستطاع حلها في مكانها " ! وهذا يستدعي الحديث عن مسألة الستر على المخالف، كقيمة إسلامية « من ستر مسلماً ستره الله » ، وحريٌ برجال الهيئة أن يدركوا أنّ عملهم إذا جُرد من معناه الإيماني وبعده القيمي استحال صدّاً عن المعروف وتثبيتاً للمنكر، ولهذا قال عليه السلام «وإنّ منكم لمنفرين» .لا يفتأ الناس يتساءلون عمّا إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما ظهر من أحوال الناس أم فيما استتر؟ وفيما إذا كان ذلك مدعاة لتجاوز ما جعله الشارع حرماتٍ لا يجوز انتهاكها أبداً ، كحرمات النفس والأموال والأعراض والدماء . ومما يحمد لرئيس الهيئة تحذيره من التعسف في استعمال السلطة ، أو استخدامها ارتجالاً، معتبراً ذلك من أكبر" الجرائم "،وأنه يتنافى مع مبادئ الإسلام ! إنّ الناس يكرهون النزعة السلطوية التي تقبض عليهم وتحاسبهم وتحاكمهم – باستعمال وسائل العنف واصطحاب رجال الشرطة - ؛ لأنها عدو لدود للحريات الخاصة ، وتحول دون التفسير المرن للالتزام بالدين ، انحيازاً للتفسير المتشدد ، والنظرة الضيقة لما يجب أن يكون عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كما دعا رؤساء الهيئات إلى بدء مرحلة جديدة، وكسر حاجز الخوف والرهبة، وفتح علاقات مع المواطنين والمقيمين، وأن تكون " الابتسامة " عنواناً لرجال " الحسبة "، مؤكداً أهمية الأخذ بيد العاصي واحتوائه، ومحاولة ثنيه عن ارتكاب المعاصي، واصفاً المجتمع السعودي بالمجتمع النقي. وفي هذا القول أمور على درجة عالية من الأهمية ، أولها كسر حاجز الخوف والرهبة التي تعتري بعض الناس لدن رؤيتهم لأعضاء الهيئة حتى لو لم يكونوا متلبسين بما يعده رجل الهيئة مخالفة ، لاسيما الأطفال والنساء وبعض الوافدين ، ثانيها الابتسامة التي يعدها الدين صدقة عندما يقابل بها الإنسان أخاه الإنسان ، وهي التي للأسف قلما تُرى على رجال الهيئة ، ثالثها وصفه المجتمع بالنقاء ، وهو في هذا يخالف من قال من رجال الهيئة إنه لولا ما يقومون به في المجتمع لكثر اللقطاء ، في اتهام صريح وفجٍ لأخلاق الناس ودينهم . لا بدّ من تقنين هذه الوظيفة ليكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نموذجاً ناجحاً في البيئة الاجتماعية والثقافية للأفراد، لذا ينبغي أن يرد في سياقه الطبيعي ضمن حركة المجتمع والدولة، ويندرج وفق سلم الأولويات التي رعتها الشريعة ، فممارسات بعض رجال الهيئة فيها مخالفات شرعية ،كعدم احترام ما يعرف في الفقه الإسلامي بسلامة تصرفات الناس ، وأن ما يكون في مجتمع المسلمين محمول على الصحة والسلامة إلى أن يقوم دليل الفساد ! لذا فالدخول إلى المطاعم والمقاهي وسؤال المرأة هل هذا محرمك ، وسؤال الرجل ما صلتك بهذه المرأة ، يناقض هذا الأصل الذي يرى أن أمر المسلم محمول على اليقين حتى يثبت خلاف ذلك . أخيرا لقد كتبت ما كتبت ، تقديراً للجهود غير المسبوقة التي يقوم بها معالي رئيس الهيئة ، فلقد عانى الناس كثيراً ، وآن لهم أنْ يرتاحوا ، وأنْ يعرفوا ما لهم وما عليهم ؛ بأن يعيشوا في مجتمع طبيعي، وهذا حق من حقوقهم المشروعة . والسؤال الذي يجدر بنا طرحه هنا هو: ماذا يريد الناس من الهيئة ؟ لعله من الأنسب إقامة حوار بينهم وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حوار عنوانه : ماذا يريد المجتمع من الهيئة وماذا تريد الهيئة من المجتمع ، حوار تُطرح فيه كل الإشكالات العالقة بين الطرفين التماساً لحلول عاجلة ، تزيل الالتباس، وتؤسس لعلاقات بعيدة عن الشك والريب ، وتجنيد الجواسيس من عمال المطاعم والأسواق التجارية ، وحراس العمارات السكنية . المجتمع لا ينكر ما تقوم به الهيئة من محاربة لأوكار الفساد ، وبيوت الدعارة ، ومروجي المخدرات ، وصانعي الخمور ، والمشعوذين ، والرقاة الفاسدين مستغلي النساء . وشتان ما بين هذا وذاك .