" لست أعرف على وجه التحديد ما إذا كانت هذه الحكاية أسطورية أم حقيقة، لكنني متأكد تماماً بأنني سمعتها أو قرأتها في مكان ما. يحكي أنه كان هناك سلطان جائر ظالم مستبد شعر ذات يوم بالملل، فأمر جنوده بوضع جرس كبير في ساحة المدينة وأخبر الناس بأنه من يشعر بالظلم منهم ليس عليه سوى أن يقرع الجرس، فازداد الناس خوفاً وهجروا الجرس. ومرت السنين دون أن يقرع أحد الجرس لدرجة أن الحشائش والنباتات تسلقته وتشابكت فيه حتى اختفى، وفي ذات يوم مرت بالقرب منه (غنمة) ضلّت عن القطيع فجذبتها النباتات المتدلية من على الجرس فأخذت ترعى منها حتى رن الجرس، فتنبه الناس لصوته الهادر، فثاروا.".. هكذا علّق الفنان الفلسطيني أيمن يسري ديدبان على تجربته الجديدة (الجرس) التي عرضها في صالة كوادرو بمدينة دبي خلال شهر مارس الماضي، وهي معلقة ضخمة مصنوعة من ألواح معدنية مطوية ومعلقة في السقف مع مقبض يتدلى مغرياً المشاهد بجذبه وقرع الجرس. عمل (1948-1967م) ، للفنان أيمن يسري، وهو عمل سابق للفنان يظهر فيه شكل شبيه بالأشكال المستخدمة في عمل الجرس والممثلة لعلم فلسطين العمل يحمل الكثير من المضامين السياسية والاجتماعية التي اختزلتها تلك الأقصوصة الشعبية البسيطة وعكسها صفيح المعدن البارد. فالألواح في حقيقتها ما هي إلا استدعاء للعلم الفلسطيني إذ تم طيّ شرائح الستنالستيل المصقولة بطريقة تشبه ذلك العلم إلاّ أن طيّها لم يأت بطريقة منتظمة بل تعمّد الفنان ثنيها عنوة ليظهر السطح مطعوجاً يحمل آثار القسر والتشويه ويعكس سطحه المصقول ما حوله ولكن بطريقة مشوهة لا تظهر جماله. هي الحال في قضية فلسطين وآمال الأمة التي شوهها الواقع، حتى أن صوت القرع يأتي مخالف للتوقعات فهو رخيم منخفض لا رنة فيه. إن في القصة التي يرويها ديدبان إشارات مثيرة للجدل تطرح من وجهة نظرنا الخاصة تساؤلات عدة عن حقيقة دافعي عجلة التغيير وحقيقة أهدافهم، وما إذا كانوا يعقلون بالفعل حقيقة ما أحدثوه، أم أنه في واقعه (غنمة) ضلّت الطريق وسعت لتشبع حاجتها الحاضرة فحدث ما حدث. كما توجه اصبع الاتهام للناس في عدم التعبير فقد يمنح الناس الحق في التعبير لكنهم كثيراً ما يفتقدون الجرأة لممارسته أو البراعة في استغلال هذا الحق، وهو ما قام به ديدبان من خلال عمله. لكن ما قد غاب عن ذهن ديدبان أن تجربة الجرس قد وجهت أصابع الاتهام نحوه، فدون أن يدري أصبح ديدبان ذلك الحاكم الظالم وأصبحنا نحن المشاهدين ذلك الشعب الخائف المترهب مما قد يحدث لو قرع الجرس. فرهبة صالة العرض وضخامة العمل الهائلة وهدوء المكان الطاغي تجعل المشاهد يفكر ألف مرة قبل أن يمد يده لقرع الجرس رغم أنه لا يوجد أي حارس يمنعه، ولولا دعوة الفنان الشخصية التي وجهها مسبقاً بضرورة عيش التجربة لما قرعت الجرس أبداً، ولفعلت ما فعله البقية ممن كانوا بالصالة فاكتفيت بالدوران حوله ووأدتّ رغبتي في قرعه فور ولادتها. إن هناك قوة خارقة يكتسبها أي شخص ما أن ينصّب نفسه في مكان الخطيب، فيفرض رهبته على كل مستمع –أو مشاهد في حالة الفن– وعليه يجب أن يحسن كل شخص صياغة الرسالة والأهم أن يفكّر جيداً في الغاية منها وهذا بالضبط ما قام به ديدبان لكننا ما زلنا نطالبه بالتقليل من الرهبة والاقتراب من الجمهور بعرض أعماله في أماكن أكثر ألفة فقاعات العرض الباردة لا تشجع أبداً على الحوار وعيش التجربة، فكل ما فيها يقدر بثمن وتجربة الجرس أكبر من أن تقاس برقم.