إنّ استرسال الداعية في الحديث بين مريديه، يوقعه في مزالق لو فكر قليلاً لما وقع فيها، ويبدو أن الشهرة والأضواء والأتباع أمور تغري الداعية بإطالة الحديث، وأن التمترس خلف كل ذلك يحميه من المساءلة، لذلك شاهدنا وسمعنا كثيراً من التجاوزات.. ثمة حقيقتان تظهرهما برامج الدعاة والمشايخ في القنوات الفضائية، إحداهما أن الدعاة يتكسبون بالدين، وأن أجورهم بلغت أرقاماً فلكية أين منها أجور نجوم الطرب والرياضة، وفي هذا السياق أذكر أن جارة لوالدتي منذ سنوات جاءتها تشكو من رسوب ابنها الوحيد للمرة الثالثة في امتحان الثانوية العامة، قائلة بلهجة جداوية محببة (إذا سقط السنة الجاية أخرجه من المدرسة وأشتري له واحد عود عشان يغني في الأفراح ويصير غني)! وربما لو كانت تلك السيدة تعلم عن الثراء الفاحش الذي سيحققه المشتغلون بالدين لاحقاً، لقالت ألحقه بمعهد ديني. وقد قالوا في المثل الشعبي (هج اثمك يرزقك الله) كناية عن أن الاشتغال بالكلام باب من أبواب الرزق! والثانية أن الدعاة والمشايخ الفضائيين والمغردين أشبه بقنبلة موقوتة لا نعرف متى تنفجر لتسبب أزمة ما داخل الوطن أو خارجه، أو في دولة من دول العالم، إن جو الإثارة، وثقافة التحريض، والدجل في بعض الأحيان، صارت حاضرة في أذهان الجميع، ولم نعد ندري، هل يُعدُ أولئك برامجهم قبل الظهور على الفضاء استعداداً لما قد يقابلهم من مفاجآت، لاسيما أن معظم تلك البرامج مباشرة، وأن التغريدة عندما تكتب لا سبيل للتراجع عنها، أم أنهم لا يعدون لذلك عدته وتأتي أقوالهم وليدة اللحظة ؟ إنّ المشهد الإعلامي والتويتري العربي يؤكد ذلك ؛ بدليل ما صار يترامى إلى أسماعنا بين الحين والآخر، بل بين اليوم والغد، فلا نكاد نستفيق من فتوى أو رأي أو حكم، حتى يقتحمنا غيره أكثر منه غرابة، وكأن القوم باتوا في سباق ماراثوني أيّهم يحتل أكبر مساحة في وعي الناس وأحاديثهم، ناهيكم عن الصحف وفضاء الله الواسع! ولم يعد أولئك يشتغلون على قضايا الدين وحدها، بل تجاوزوا ذلك إلى السياسة والرياضة والفن، حتى حشر بعضهم أنوفهم في أحوال الدول العربية التي تجري فيها انتخابات رئاسية، بين معارض لشخص وموالٍ لآخرَ، ولا تكسب بلادنا من هذا التدخل الفج في شؤون الاخرين سوى الهجوم عليها في وسائل إعلامهم. ودولة الإمارات العربية من الدول التي فتحت قنواتها الفضائية أبوابها لعدد من الدعاة، والمشايخ لتقديم برامج على الهواء، ظاهرها ديني وباطنها غريزيّ تحركه أهواء الشيخ الفضائي، وقد اضطرت إلى إلغاء برنامج " وأخر متشابهات " الديني بعد أن هاجم مقدمه أحمد الكبيسي الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان، لخطب ودّ الولي الفقيه الذي أصبح صاحب الكلمة الأولى في تعيين الوزراء والمسؤولين في العراق، ومنصب وزارة الشؤون الدينية في العراق تستحق ما قام به من هجوم على صحابي كان من كتّاب الوحي. فسبب إحراجاً شديداً لدولة الإمارات التي قامت على فكر التسامح والابتعاد عن الغلو الديني. ومنذ أيام نشرت مواقع إلكترونية وصحف تصريحات منسوبة للقرضاوي يشبه فيها معارضي جماعة الإخوان المسلمين بقوم لوط! إنه وصف لا يليق أن يصدر من عامة الناس، فكيف ونحن إزاء شيخ من شيوخ المسلمين له تجربته الثرية في الوعظ والإرشاد الديني، ناهيكم عن المناصب الدينية الكثيرة التي يتولاها، فهل يجوز له أن يصف ملة كبيرة في العالم العربي من معارضي الإخوان بالشذوذ ؟ وفيهم العلماء والأطباء والمفكرون والمهندسون والساسة والقادة وأساتذة الجامعات ورجال الدين ؟ وهذا الاستخدام حتى وإن تبرأ منه مكتب القرضاوي لا حقا – كعادة من يقول كلاماً غير مسؤول، ليس أسهل عليه من النفي - لكن هذا الابتذال اللفظي لا يفاجئنا، وصاحبه ركب مؤخراً مركب السياسة، فوضع رأسه برؤوس حكام الدول، وصار عبر برنامجه يقود الثورات، ويوجه الثوار، ويخطب في الميادين! إن استخدامه لذلك الوصف يكشف عن طموح ونزوع لسلطة مطلقة، ولا يخرج فيه عن النزعة النرجسية للإخوان ؛ فهم المسلمون الذين يملكون وحدهم ناصية الحقيقة، ومن هم خارج تنظيمهم ليسوا بإخوان وليسوا مسلمين، أما المعارضون لهم فشواذ. هذا تفكير أملته فتنة أضواء الإعلام، و " أكاديميات التغيير" وردهات العوالم السفلية، والصفقات المشبوهة، والغلو والتكبر، نتيجة الانكباب عليه وتقبيل رأسه من قبل مريديه كالغنوشي وسلمان العودة وغيرهم. إنّ استرسال الداعية في الحديث بين مريديه، يوقعه في مزالق لو فكر قليلاً لما وقع فيها، ويبدو أن الشهرة والأضواء والأتباع أمور تغري الداعية بإطالة الحديث، وأن التمترس خلف كل ذلك يحميه من المساءلة، لذلك شاهدنا وسمعنا كثيراً من التجاوزات، في القرآن وسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لو تفوه بها شخص ليست له سمة دينية لقامت الدنيا عليه ولم تقعد، ولعلنا ما زلنا نذكر ما حدث لحمزة كشغري، على الرغم من معارضتنا لما قاله في شأن الرسول، لكن هناك من هو أكبر منه سناً وأكثر علماً ونضجاً تجاوز في حديثه عن الرسول، لكن مراكزهم مانعة من التعرض لهم أو الاحتجاج عليهم ناهيكم عن مساءلتهم، فهل هناك أسوأ من القول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم، كان لديه نقص في الشخصية ؟ أو أنه كان يقبل الخمر هدية ؟ وعلى الرغم من اعتذار من قالا بذلك، لكن هذا لا ينفي عنهما تسرعهما وتعجلهما واتكاؤهما على سماتهما الدينية. أما سورة التفاح – التي تعالت فيها ضحكات الحضور - فوالله لو صدرت عن مراهق لأقاموا عليه الحد، والشواهد أكثر من أن تحصى. لكني هنا أكتقي بما قاله الشيخ صالح الفوزان في هذا إذ سأله سائل، قائلا : " بأن الفتن قد كثرت، وأن الدعاة المضللين قد كثروا، وقد سمعت بعض الدعاة يقول للجمهور إنه دعا يهودياً إلى الإسلام، فقرأ من سورة مريم، ثم قرأ كلاماً عادياً، رتله بترتيل القرآن، ثم قال مازحاً للجمهور : هذه سورة التفاح! فما حكم هذا ؟ وهل يعدّ هذا استهزاءً بالقرآن ؟ فأجاب الشيخ : نعم إذا كان يأتي بكلام من عنده، ويشبهه بكلام الله، ويرتله مثل ما يرتل كلام الله ويسميه سورة، فهذا على خطر عظيم، وقد يرتدّ بهذا الكلام، وإن كان مازحاً (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) ". ولم نسمع أن أحدا غيرالشيخ الفوزان أنكر ذلك. غير أن أحدهم التمس العذر لمن قال بنقص شخصية الرسول لأنه أخطأ، فقد قال (نغلب جانب الرفق والرحمة مع المخطىء يجب أن نقوم طريقتنا قي المعالجة أي عدم الشخصنة...) وهذا جيد لكن هلا طبقتم ذلك على كل من يخطىء دون تحيز لفئة دون غيرها! أما السياسة ؛ فقد حذر كثيرون " من أن دخول رجال الدين غمار السياسة، يسيء لهم ويقودهم لمهاوي الردى ومستنقع وحول الجدل، ويفقدهم رباطة جأشهم والقداسة التي يصنعها تلاميذهم حولهم، فتسمع عن العالم الرباني، والشيخ ذي النفحات الإيمانية. لكن ما أن يوغل رجل الدين في غمار السياسة حتى يضطر أن يرد الحجة بالحجة، وأن ينزلوا من عليائهم ". ولذا لم ينأَ بعض دعاتنا بأنفسهم عن خوض غمار السياسة عند الآخرين، بل تسابقوا إليها بين معارض لسياسي، وآخرَ موالٍ، وذلك في انتخابات الرئاسة المصرية، ففي حين دعا أحدهم على مرشح الرئاسة المصرية عمر سليمان بالهلاك، معتبرا ترشحه لمنصب الرئاسة جرأة وقحة، واستخفافاً بدماء الثورة، واستمرارا لحرب الفلسطينيين، وهدية لليهود، وفرحة لأعداء الإسلام! يأتي آخر داعياً علماء مصر وشيوخها وعامة شعبها أن يقدموا الدعم والمساندة لحازم صلاح أبو إسماعيل، وأن يلتفوا حوله، واصفاً إياه ب” القوى الأمين ”، مؤكداً " أن مصر تستحق... أن يحكمها رجل يأخذ بيدها إلى برّ الأمان... وليس ذلك لمجرد كون الشيخ الفاضل إسلامياً، وإنما بعد تأمل فى شروط الولاية، مقارنة بين المرشحين لشغل منصب الرئاسة وتحمل أمانة الأمة... "! ألا يعدُ كلا الرأيين تدخلاً سافراً في شؤون الآخرين ؟ أما بلادنا فلا يصيبها من تلك المواقف سوى الهجوم الذي يشنه الناخبون عليها، ظناً منهم أنه رأي الدولة، لا رأي دعاة حسبوا أن موقعهم يمنحهم الحق في حشر أنوفهم فيما لا يعنيهم. أما ثالثة الأثافي في الشأن السياسي، فهي قصة الملائكة التي تقاتل إلى جانب السوريين ضد النظام النصيري، تلك القصة التي تناقلها الدعاة في خطبهم ومواقعهم، وهذا يشبه ما كان يروج له الصحويون في الثمانينيات من خرافات سيطروا بها على عقول المراهقين، عن كرامات الأفغان، كتفجير أحدهم دبابة روسية بحفنة تراب، بعد أن نفد مخزونه من الذخيرة، أو إسقاط أحدهم طائرة بحجر! لكن تلك الخرافات انحسرت بانحسار ظاهرة الأفغان العرب، ثم عادت في حرب الشيشان في مطلع التسعينيات، كما راجت بقوة لدن القضاء على عصابة ابن لادن، إرهابيي تنظيم القاعدة، إذ حفلت أدبياتهم بتلك الخرافات، خصوصاً الإرهابيين الذين لا تتعفن جثثهم، أو الذين يبتسمون وهم جثث لا حراك فيها! أما الملائكة الذين يقاتلون إلى جانب ثوار سوريا، فقد حاول الدعاة فيها استنساخ قصة الملائكة الذين قاتلوا إلى جانب المسلمين في معركة بدر، ووصفهم القرآن الكريم بقوله : (اِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ). ويحق لكل ذي عقل أن يتساءل لماذا قاتلت الملائكة مع السوريين فقط دون غيرهم ؟ لماذا لم نسمع عنها في كل الحروب التي خاضها المسلمون في أفغانستان والشيشلن ؟ بل لماذا لم تنزل الملائكة لتساند الفلسطينيين ضد اليهود، وبعض حروبهم وقعت في رمضان، كالحرب التي شنتها حركة أمل بالتعاون مع إسرائيل على سكان المخيمات الفلسطينية في لبنان عام 1985،وفي شهر رمضان من عام 1405 ه ؟ لماذا ظل مسلمو البوسنة يستغيثون، ومات عشرات الآلاف منهم على أيدي الصرب ولم تنزل ملائكة، لإنقاذهم من مجازر الصرب ؟ الثورة السورية ليست بحاجة إلى مبالغات وقصص خيالية لإثبات عدالتها، ينسجها الدعاة من أحاديث العامة، فيبدون فيها كالحكواتي الذي يسلي الناس بأساطير وقصص ما أنزل بها من سلطان!