انتهيت في المقالة السابقة من هذه السلسلة التي لا أعرف بالضبط كيف ومتى سأنهيها الى سؤال: كيف استطاع أهل مكة أن يطوّعوا كل هذه الجبال والشعاب لتصبح جزءا من نسق حياتهم اليومي من دون أن ينقصوا منا هيبتها المهيمنة؟ وكان الجواب قد جاءني واثقا من نفسه متهاديا في فراغ البلاغة القديم: أهل مكة أدرى بشعابها.. لكنه ظل جوابا قاصرا عن بلوغ المعنى وإيصال المعلومة، فصحيح أن أهل مكة أدرى بشعابها، لكن لهذه المدينة بالذات أهل في كل زمان ومكان غير أهلها الباقين في المكان على مر الزمان. وأولئك الأهل المتغيرون في محيط الثابت السكاني هم أهل السؤال أصلا. لا بد أن هذا السؤال قد راود كل من مر من هنا حاجا أو معتمرا، ولا أظن أن زائرا يجرؤ على المجيء لمكة من غير أن يحمل هاتين الصفتين الجميلتين. سؤال الجبال والشعاب، تشعب كثيرا بعد ذلك، وتضاعف في طريقنا الى مدينة النبي المنورة. كانت إدارة الحملة قد قررت لنا أن نزور المدينةالمنورة قبل أن تبدأ مناسك الحج، فلم نكد نمضي ليلتنا الأولى بعد العمرة الأولى حتى بدأ التطلع لتلك الهجرة. نعم الهجرة. عندما سألت مدير الحملة عن موعد الذهاب الى المدينة استخدمت مصطلح الهجرة من حيث لا أدري ولا أعي كيف استخدمته. قلت له حرفيا في الليلة السابقة على الموعد المتوقع: متى نهاجر الى المدينة؟ ابتسم الرجل وأجاب: صباح الغد إن شاء الله ستنطلق الحافلات.. الرحلة طويلة وشاقة ، وبإمكان من يريد ألا يقوم بها ويبقى هنا محتفظا بجهده للمناسك المقبلة. فهي ليست من مناسك الحج على أية حال. ماذا يقول هذا الرجل؟ كيف لي أن أفوت فرصة عظيمة كهذه لاقتفاء أثر النبي عليه السلام في تلك الهجرة التي غيرت مجرى التاريخ كما لم يتوقع أحد من معاصريها أنذاك سوى المؤمنين به وبها؟ لكننا الآن نقوم برحلة وسنعود أدراجنا بعد زيارة المسجد النبوي والصلاة فيه كما فهمت من برنامجنا المسبق، أما الهجرة فهي شيء آخر تماما، قديم كقدم اللغة في معناها الدلالي، وقديم كقدم العهد النبوي في معناه الاصطلاحي. ففي سياق السيرة النبوية اكتسبت تلك المفردة معناها الذي سيظل يميزها لاحقا عن كل هجرة ، ويكسبها ذلك الألق المقدس في الوجدان، وقد كان الأثر النبوي قد حدد تلك الدلالة في خضم المصطلح؛ "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه".. فهل جاء ذلك النور النبوي في طريقي وأنا أستخدم تلك اللفظة في طريقي للمدينة المنورة إلى الله ورسوله؟ .. ربما ، خاصة وأن الهجرة النبوية المفردة كانت في صيغتها النهائية جماعية قام بها جميع المسلمين الذين كانوا في مكة آنذاك باتجاه يثرب التي أصبحت مدينتهم بعد ذلك فرارا بالفكرة النورانية التي آمنوا بها، وصارت هويتهم الانسانية، من اضطهاد الأهل الذين تحولوا الى أعداء وفي حسابات الكفر والايمان. كانت حسابات المهاجرين أبسط من أي مساومة وأعقد من أي إغراء لكنها في الميزان القرآني واضحة جلية؛ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).. ولذلك كانت نتائجها أكثر وضوحها وجلاء في الميزان القرآني نفسه؛ (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ). الحسابات واحدة على أيه حال حتى لو لم تتساو في المحصلة النهائية في حجم التضحية على مر الأزمان بيننا وبين أولئك النفر الأول من المؤمنين بتلك الفكرة التي وجدنا عليها آباءنا فآمنا بها تقليدا أولا ثم اختيارا أخيرا، وها نحن نعمد ذلك الاختيار الحر بأداء الركن الخامس من أركان الدين. بعد الظهر بقليل كان معظمنا قد ركب الحافلات فعلا ولم يبق سوى قلة ممن سبق له وأن قام بتلك الرحلة في مرات سابقة. انطلق الركب مخترقا تلك الجبال والشعاب والشوارع وتنوعت المشاهد الجديدة لنا من وراء النوافذ.. وعندما لاحت لافتة في طريقنا تشير الى أننا الآن قد خرجنا من حدود مكة كانت الساعة تشير الى الثانية بعد الظهر. كنا قد صلينا الظهر والعصر قصرا وجمعا، تقديما، كما نصحنا الشيخ الذي لم يرافقنا في رحلتنا تلك. ولذلك لم نحمل هم السؤال عن موعد الصلاة ونحن نرى تحولات الشمس ارتفاعا وهبوطا بين تلك الوديان والقفار والجبال وغير من مظاهر الأرض الشديدة التنوع بأقل المفردات الجغرافية. كانت قطعان الإبل السادرة في انطلاقات مختلفة قربا وبعدا من الطريق المعبد هي أكثر المشاهد سحرا بالنسبة لي. أتذكر والدتي رحمها الله مع كل قطيع جديد يلوح في الأفق ، وأستحضر حكاياتها التي لا تحلو الا بذكر الإبل. ولأنني كنت قد ناوشت في طفولتي البعيدة طرفا من تلك المشاهد الحياتية المعلقة في سيرة الابل فعلا ، فقد ظلت بالنسبة لي فردوسا مفقودا في خضم المدينة. انتبهت والحافلة مستمرة في السير الرتيب ، والحكايات قد خفتت وتيرتها بين الركاب بعد أن تسرب قليل من الملل الى النفوس المتشوقة لأثر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، إلى أننا ما زلنا بعيدين عن المدينة.. شق اسم النبي محمد قلبي في تلك اللحظة الخاطفة فسالت دمعة مفاجئة ، من عين عصية الدمع، على خدي وأنا أستحضره عليه الصلاة والسلام؛ يا حبيبي يا رسول الله.. كيف قطعت كل هذه المسافة التي نأت عنا الآن ونحن نقطعها في حافلات مريحة تسير على طرق معبدة بأمن وأمان ومعرفة دقيقة لمسالك الطرق كلها؟ أنت المطارَد.. من قبل من يريد قتلك، الوحيد إلا من صحبة رفيقك وخلفك جيش جرار من الحقد البشري، الغريب عن تلك القفار التائه في ظلماتها الثقيلة، و....و... ولكن أيضا القابض على جمرة الفكرة العظيمة بكل ما أوتيت من عبقرية خالدة؟ هيمنت تفاصيل الهجرة النبوية كما حفظناها منذ طفولتنا المدرسية على ذهني الآن وتحفزت للمزيد منها.. (يتبع)