الكتابة فعل إنساني متكامل .. تحتاج منا إلى تربية وجدانية شاملة على مستوى الروح والعقل معا .. ونحن وبعد هذا الركام من التواريخ والسنن الأدبية بحاجة ماسة إلى ( عمل تربوي جمعي ) لخلق نص مؤثر .. فالشعر ذاكرتنا العربية ، والإنسان في مراحله المختلفة جعل من الفن ذاته رافدًا هاما في عملية البحث عن الحقيقة في ظل المعطيات الإنسانية التي يقدمها الدين والعلم والفلسفة .. فالدين يقدم لنا دائما حلا غيبيا من خلاله نستشعر الحياة الأخرى أي مابعد الموت .. والعلم يقدم لنا حلولا تجريبية والفلسفة تقدم لنا حلولا عقلية .. وبالتالي يقدم لنا الفن حلولا وجدانية .. وهذه الرسالة أو المسؤولية الملقاة على عاتق الكتابة تحتاج إلى جهد ثقافي وعلمي كبير مع وجود الموهبة .. وأعني بالموهبة الاستشعار الوجداني العام للحياة ، وتغذيته بأدوات ثقافية وعلمية متنوعة ، وبالتالي يتناسب العطاء الإبداعي طرديا مع هذه المعطيات ...كانت هذه توطئة لما يمكن أن أقوله لعدد من الأصدقاء الذين ربطوا دائما بيني وبين مدينة الرياض ..هذه المدينة التي أعشقها كارها لها تماما كما أكرهها حبا ورحلتي معها لاتخلو من الطرافة أحيانا فأنا أشيرُ دائما إلى أنني ( ينبعيّ ) النشوة والنشأة معا .. ( رياضي ) الحضور والتفكير ، وبالتالي ظلّت علاقتي بعمتي النخلة وسيدي البحر علاقة وجدانية ، في حين جاءت علاقتي بالرياضالمدينة دائما علاقة تأملية .. وفي هذا ملمحٌ هام جدا على مستوى تجربتي الإبداعية ، فالرياض لن تكون يوما ( المدينة الحبيبة ) لأنها مدينة الغرباء التي لا تكبر الأعياد في شوارعها ، ناهيك عن تطرّفها المذهل في كل جوانبها ..بدءا بطقسها القاري الذي تتباين فيه درجة الحرارة بصورة خرافية تتجاوز الخمسين درجة .. وبالتالي ظلت المسافة بين متناقضاتها جدلا إبداعيا مستمرّا لايخلو في بعض الأحيان من الطرافة .. فحين كتبتُ الرياض ( الناضجة ) في ذاتي في عام 2004م حيث كانت محمومة حينها بالإرهاب بدأت النص هكذا : الرياض التي ترتدي جَوْربًا للشتاء الثقيل ، وتنتعلُ الصبح دفئا تقصّى ظلالَ الضحى ... حدثتني بأن القصيدةَ واقعةٌ بينَ نصْبِ وجزْم والصديقة مابين عزمِ وحزمْ ..!قالتِ الساحليةُ : إنّ المسافة مابين حزن الصدور و( شِعرِ ) اللِّحى مطلعٌ جاهلي .. !إذا فالقيافة أن نكتبَ الشعرَ من غير خارطةِ فالخرائطُ لاتعتني بالممراتِ حينَ تغافلها عبوةٌ ناسفةْالخرائطُ لاتستعيذ بشمس الرياض ولا تستطيع التكهّنَ بالعاصفةْ ..!كلٌ دربِ يؤدي لمسجدِ جدي ..حينَ جاء أبي بعدَ عمر طويلْ وأدّى بها الظهرَ عصرًا صامَ من دون قيلولةِ قال إن المساجد محدِقَةٌ والدكاكين مغلقةٌ واحتقان المجالس فيها رجال يجيئون بالرمد الموسمي ....!والطريف هنا أن أول توصيفٍ للرياض المدينة .. ارتبط ( بالجوارب ) وهي رؤيا مختزلة جدا منذ عامي السادس يوم أن جئتُ للرياض وأنا ابن القرية الينبعية التي لايرتدي ( شيوخها الكبار ) الجوارب وفوجئت بالمسنين في الرياض يرتدونها جميعهم أثناء صلاة الفجر ، وكان طقسها باردا حينها وظلت هذه الصورة مختزلة ، ولم أفسّرها ( على الأقل على مستوى الذات ) إلا بعد اكتمال هذا النص الطويل وتداوله .. إذن الرياضالمدينة الأنثى التي لا يتزوجها مقيمٌ ولايطلّقها عابرٌ ..كما قلتُ هذا كثيرًا من قبل مدينة جديرة بالقراءة التأملية من جهة ثم إن حضوري الإبداعي جاء منها وبها وإليها دائما من جهة ثانية ..فقد غادرتها أكثر من عشرة أعوام بعد انتهائي من الدراسة فيها ..وظلت دائما تحتضن نشاطي الإبداعي سواء من خلال احتضان جريدة الرياض لي واستمرار تواصلي بها أو من خلال أصدقاء الضوء الذين يحتفون بي دائما كلما زرتها بسبب وجود الكثير من عائلتي فيها حتى سكنتُها أخيرًا ... هي عالم ثري بصدق .. وأنا لا أقدمها عاشقا لها .. لكنني متأمّلا فيها ومؤمنا جدا بقدراتها التكوينية على خلق رؤى ومواقف غاية في الأهمية ..